كيف ستوازن تركيا بين منظومتي “إس-400” و Steel Dome؟

خاص – Defense Arabia
تسير أنقرة بخطوات مدروسة نحو تعزيز استقلالها في المجال الدفاعي، في إطار معادلة تعكس توازنًا دقيقًا بين احتياجات الأمن القومي الضاغطة والتعقيدات الجيوسياسية لعلاقاتها مع حلف الناتو. وفي قلب هذه المعادلة، تبرز الجهود التركية لإنشاء نظام دفاع جوي محلي شامل يسهم في تقليص الاعتماد على الأنظمة الأجنبية ويعزز ما تُطلق عليه “السيادة التشغيلية الكاملة”.
كانت عملية استحواذ تركيا على نظام إس-400 الروسي بمثابة نقطة تحول أساسية في استراتيجيتها الدفاعية، حيث وفّرت للبلاد قدرة ردع استراتيجية مرتفعة، إلا أنها أيضًا طرح تحديات سياسية وتشغيلية مع الأطراف الغربية، نظرًا لعدم ارتباطها بهياكل القيادة control التابعة للناتو. وبالتالي، بدأت أنقرة في البحث عن بديل شامل ووطني، يمكنه الدمج بين الإمكانيات المحلية داخل شبكة دفاعية متطورة.
من هنا، تجسد مشروع “القبة الفولاذية” (Steel Dome)، الذي تعمل عليه شركة أسيلسان كأول نظام دفاع جوي تركي متعدد الطبقات ومدمج العناصر. يعتمد المشروع على دمج أنظمة بعيدة المدى مثل SİPER، ومنصات قصيرة المدى مثل KORKUT، إلى جانب تدريب شبكات القيادة والتحكم المتطورة HAKIM وT-LINK. الهدف النهائي هو خلق “صورة جوية متكاملة” تربط بين أنظمة الرادار، وأجهزة الاستشعار، ووحدات الإطلاق ضمن إطار قيادة وتحكم مركزي يعتمد على مبدأ “نظم المنظومات” (System of Systems).
خلال زيارة لمرافق أسيلسان في “جولباشي”، أوضح مهندسو الشركة لـ Defense Arabia أن التكوين الفني للمشروع يسمح بالتكامل مع المنصات الأجنبية من الناحية النظرية، إلا أن هناك قيودًا حقيقية ناجمة عن معايير الناتو الأمنية، والتي تحظر أي تبادل مباشر للبيانات مع أنظمة ليست جزءًا من الحلف، مثل نظام إس-400. لذلك، تتم إدارة هذه البيانات من خلال طبقة قيادية وطنية مستقلة (National C2) تضمن حماية قنوات الاتصال السيادية ومنع أي اختراق محتمل للبنية المعلوماتية.
في هذا السياق، يشير العقيد ظافر مراد، المختص في أنظمة الدفاع الجوي، إلى أن “التحدي الحقيقي الذي تواجهه تركيا لا يقتصر على تطوير نظم دفاعية فعالة، بل يمتد إلى تحقيق توازن بين الاستقلال التقني والسيادة العملياتية من جهة، والحفاظ على قدرة التنسيق مع الشركاء الغربيين من جهة أخرى”. ويضيف في حواره مع Defense Arabia بأن الاعتماد على هيكل قيادي وطني يعد خطوة ضرورية لتفادي أي تضارب في قواعد الاشتباك، ولكنه أيضًا يحمل عبئًا كبيرًا على أنظمة الذكاء الاصطناعي والتحكم الآلي، والتي ينبغي أن تراعي سرعة اتخاذ القرارات.
في صميم هذه المنظومة تبرز خوارزمية TEWA، التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، وتعتبر الرائد في دمج التكنولوجيا مع العمليات. تقوم هذه الخوارزمية بتحليل أنواع التهديدات وتحديد الوسيلة الأكثر فعالية للتعامل معها، سواء من خلال الذخائر الاقتصادية لمواجهة أسراب الطائرات المسيّرة، أو الصواريخ الاعتراضية ذات المدى الطويل لأهداف ذات قيمة عالية. كما تلعب دورًا هامًا في تحسين استخدام الذخائر وتفادي التعارض بين الأنظمة المختلفة، ومع ذلك، تظل الطاقة المحدودة للربط مع النظام الروسي إس-400 عقبة أمام تحقيق التكامل المثالي، خصوصًا في حالات الطوارئ الوطنية.
تُعتبر تجارب الدول التي قامت بتطوير أنظمة دفاع جوي متعددة الطبقات، وخاصة تجربة إسرائيل، مصدراً غنياً للدروس والعبر. فقد أوضحت بعض المواجهات والاختبارات العملية أن الأنظمة المتعددة الطبقات ليست محصنة ضد الثغرات: التحديات تظهر في التوازن بين ميزانية الذخائر، التكامل الحاسوبي، وإدارة قواعد الاشتباك خلال تدفق تهديدات متزامنة ومتنوعة المصادر. في هذا السياق، يُعَدّ الامتداد الجغرافي الكبير لتركيا وعمقها الاستراتيجي عنصرين مختلفين جذريًا عن تجربة إسرائيل، الأمر الذي يتطلب من أنقرة استيعاب الدروس المستفادة وتكييف الحلول لتعزيز التغطية وسد الثغرات في مستويات الاستشعار والتفاعل واتخاذ القرار، خاصة أمام تهديدات تأتي من مسافات بعيدة أو عبر ساحات متعددة الاتجاهات.
وفي نهاية حديثه، يشدد العقيد مراد على أن “نجاح مشروع القبة الفولاذية لا يُحدد بعدد الأنظمة المنتشرة، بل يتم قياسه بقدرة شبكة القيادة والسيطرة الوطنية على إدارة معركة جوية معقدة ضمن بيئة هجينة تجمع بين التكنولوجيا الشرقية والغربية”. بهذه الرؤية، تتحول معركة السيطرة الجوية إلى صراع معلومات وإدارة بجدارة، حيث تضع خوارزميات القرار مسار الصواريخ قبل إطلاقها.




