
خاص – رماية
تشهد العقيدة التسليحية في منطقة الشرق الأوسط تحولاً جذرياً يتجاوز مجرد تحديث الأساطيل الجوية والدفاعية؛ إذ تنتقل دول المنطقة بخطى ثابتة من مرحلة “الشراء المباشر” للمعدات الجاهزة إلى عصر “الشراكات الصناعية” وتوطين التكنولوجيا.
وفي قلب هذا التحول الاستراتيجي، تبرز الصين وكوريا الجنوبية كقطبين رئيسيين يسعيان لكسر الاحتكار الغربي التاريخي، مقدّمين بدائل شرقية تتفاوت في فلسفتها التقنية وقدرتها على الاندماج في منظومات القيادة والسيطرة المحلية.
الاستراتيجية الصينية: ملء الفراغ والرهان على “الردع غير المتناظر”
تعتمد بكين في توسعها الإقليمي على سد الفجوات النوعية التي تتركها القيود الغربية الصارمة، لا سيما تلك المتعلقة بتشريعات (ITAR) الأمريكية. وقد نجحت الصين في فرض معاييرها الخاصة في قطاع الأنظمة غير المأهولة (UAVs)، حيث أصبحت طائرات Wing Loong و CH-4 الصينية العمود الفقري لأسراب الاستطلاع والهجوم في دول ثقيلة دفاعياً مثل السعودية والإمارات ومصر والجزائر. ولم يعد الأمر يقتصر على التوريد، بل انتقل إلى “الإنتاج المشترك”، مما يعزز استدامة سلاسل الإمداد بعيداً عن الضغوط السياسية الدولية.
وفي خطوة أثبتت نضج التقنية الصينية، سجلت الدفاعات الجوية السعودية سابقة عالمية باستخدام نظام الليزر Silent Hunter لتحييد التهديدات منخفضة التكلفة، وهو ما يمثل تحولاً نحو “أسلحة الطاقة الموجهة” لمواجهة استنزاف الصواريخ الاعتراضية. ومع ذلك، تظل “المعضلة الفنية” الكبرى للصين تكمن في غياب التوافقية البينية (Interoperability)، حيث تعتمد البنية الدفاعية لدول المنطقة بشكل أساسي على معايير “الناتو” وشبكات “Link 16″، مما يجعل دمج الرادارات أو المقاتلات الصينية في غرف العمليات المشتركة تحدياً برمجياً معقداً، ويبقيها في أغلب الأحيان كـ “جزر تقنية” منعزلة.
التكنولوجيا الغربية بمرونة شرقية
على الجانب الآخر، تقدم كوريا الجنوبية نموذجاً مختلفاً تماماً. حيث استغلت سيول ببراعة حاجتها لتعزيز “السيادة التقنية” لدول المنطقة مع الحفاظ على التوافق الكامل مع البنية التحتية الغربية. لقد تحول نظام الدفاع الجوي Cheongung II (M-SAM) إلى أيقونة للنجاح الكوري في الشرق الأوسط، بصفقات تجاوزت قيمتها مليارات الدولارات مع الإمارات والسعودية والعراق. وتتمثل الميزة التنافسية لهذا النظام في امتلاكه قدرات اعتراضية (Hit-to-Kill) تضاهي منظومات الباتريوت، ولكن بتكلفة دورة حياة أقل ومرونة أكبر في نقل التكنولوجيا.
ولم يتوقف الاختراق الكوري عند الدفاع الجوي، بل امتد لقطاع المدفعية والطيران؛ فصفقة الهاوتزر K9 Thunder مع مصر وراجمات Chunmoo في السعودية لم تكن مجرد صفقات تجارية، بل تضمنت بنوداً جوهرية لنقل التكنولوجيا (ToT). وفي سماء المنطقة، تقدم طائرات FA-50 ومشروع الجيل الجديد KF-21 Boramae حلاً عبقرياً لسد الفجوة بين الأجيال؛ فهي تمتلك “حمضاً نووياً” تقنياً مشتقاً من الصناعات الأمريكية، مما يضمن توافقاً فورياً مع أنظمة القيادة والسيطرة (C4I)، وهو ما يمنح سيول أفضلية تكتيكية كبرى على منافستها الصينية.
آفاق المستقبل: من يمتلك مفتاح “السيادة الدفاعية”؟
تؤكد المعطيات الراهنة أن سوق السلاح في الشرق الأوسط لم يعد حكراً على القطبين التقليديين، وأن معايير المفاضلة لدى صانع القرار العربي قد تغيرت بشكل جذري. إن الموثوقية السياسية التي تقدمها كوريا الجنوبية كـ “حليف غير مهيمن”، وقدرة أنظمتها على “التوصيل والتشغيل” (Plug-and-Play) داخل الشبكات الدفاعية القائمة، تمنحها تفوقاً في ملفات الطيران والدفاع الصاروخي المعقدة.
في المقابل، تظل الصين اللاعب الأقوى في ملفات الردع الاستراتيجي والدرونات وأسلحة الطاقة المستحدثة. وتبقى الرسالة النهائية لهذا السباق واضحة: المستقبل في المنطقة لن يكون لمن يبيع المعدات العسكرية فقط، بل لمن يمنح التكنولوجيا ويفتح مختبراته لبناء قاعدة صناعية محلية مستقلة. بينما تسعى بكين لتطوير نموذج “شراكة” يتجاوز التصدير، يبدو أن التقارب التقني بين سيول والغرب سيبقى العائق الأكبر أمام التقدم التكنولوجي الصيني في المدى القريب.







