
العقيد الركن م. ظافر مراد
تترقب الدول حول العالم، بالإضافة إلى المنظمات الدولية والشركات الاقتصادية، نتائج الانتخابات الأمريكية المقبلة، حيث يُنظر إليها كحدث مهم يؤثر على مستقبل العديد من المؤسسات الكبرى. هذا التوجه منطقي، إذ يعكس الوعي العام بمدى تأثير سلوك الرئيس الأمريكي الجديد على الأولويات والقرارات الهامة في الساحة الدولية الأمنية والاقتصادية.
أظهرت المناظرة بين الرئيسين الأمريكيين السابق “دونالد ترامب” والحالي “جو بايدن”، التي بثتها شبكة CNN، أن حظوظ بايدن في الانتخابات المقبلة قد تكون ضعيفة، مما يشير إلى تحول جذري في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه العديد من القضايا العالمية. سوف تتقاطع نتائج هذه الانتخابات مع نتائج الانتخابات الإيرانية التي قد تؤدي إلى فوز الإصلاحيين، عبر مرشحهم “مسعود بزشكيان”، مما قد يساهم في خفض التوتر مع الغرب. وهذا يتيح إمكانية الوصول إلى اتفاق نووي جديد مع تعزيز التنسيق الأمني في الشرق الأوسط.
تثبت السياسات الخارجية الأمريكية أنها مدروسة وتتسم بالرؤية بعيدة المدى، ولا تتغير ثوابتها بتبديل الرؤساء أو الإدارات. ومع ذلك، قد يتم تعديل الأساليب الاستراتيجية وطريقة التنفيذ، مما يتطلب إعادة تقييم الأولويات. يجب أن يسعى التخطيط الاستراتيجي لتحقيق توازن بين ثلاثة جوانب أساسية: الأهداف المطلوبة، والموارد المتاحة، وطرق استخدام هذه الموارد لتحقيق الأهداف النهائية. عادةً ما يُعدل الأسلوب إذا لم يحقق النتائج المرجوة، مما يستدعي تطبيق أساليب جديدة تتماشى مع التحديات الناشئة.
تدخل ضغط الجماعات وأخذ الرأي العام الأمريكي بعين الاعتبار في تحديد النجاح الانتخابي للمرشحين. تطمح العديد من مجموعات الضغط، مثل اللوبي اليهودي بلعب دور كبير في صنع القرار الأمريكي، لكن هناك أيضاً مجموعات ضغط عربية وإيرانية وصينية تسعى لتحقيق مصالحها.
إذا تولى “دونالد ترامب” رئاسة الولايات المتحدة، سيظهر أثر ذلك بصورة واضحة على المسألة الأوكرانية. من المحتمل أن يتراجع الدعم العسكري والسياسي الأمريكي لأوكرانيا لمواجهة الهجوم الروسي، مما يُجبر أوروبا على اتخاذ قرار بشأن استمرار هذا الدعم. هناك توقعات بانخفاض هذا الدعم تدريجياً، مما سينتج عنه محاولة للتوصل إلى تسوية منطقية للحرب. الحرب الروسية-الأوكرانية وصلت إلى مستوى حرج، وقد تكون هناك مواجهة مباشرة بين الناتو وروسيا، وهو ما يأمل الجميع في تجنبه نظراً للكلفة المرتفعة لأي صراع من هذا النوع مقارنة بالمكاسب المحتملة للولايات المتحدة.
استفادت الشركات الأمريكية في قطاع الأسلحة بشكل ملحوظ من بيع الأسلحة للدول الأوروبية، مدعومة بعقود تسليح تمتد لأكثر من عقد، تقدر بمئات المليارات من الدولارات. وفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، شهدت الولايات المتحدة زيادة في صادراتها العالمية من الأسلحة بنسبة 17% خلال الفترة بين 2019 و2023، مقارنةً بالسنوات السابقة. كما ارتفعت حصتها في تجارة الأسلحة الدولية من 34% إلى 42%. كانت أوروبا في مقدمة المستوردين، حيث ضاعفت وارداتها من الأسلحة الأمريكية، مما يعكس علاقة متنامية بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية.
من خلال تعزيز دعمها لأوكرانيا في مواجهة روسيا، تمكنت الولايات المتحدة من تحييد الاحتكاك الاقتصادي بين الدول الأوروبية وروسيا. ورغم الخسائر التي تجرها هذه الدول، بما في ذلك تداعيات تأمين موارد الطاقة، أصبحت أقرب إلى الولايات المتحدة من الناحية الأمنية والاقتصادية، وبالتالي زادت اعتمادها عليها. تقوم هذه الديناميكية بمنع الدول الأوروبية من تأكيد نفسها كقوة عسكرية واقتصادية تنافس الولايات المتحدة في المستقبل، وهو ما يعد نقطة بالغة الأهمية. إذ أن الاقتصاد الأوروبي يزاحم الاقتصاد الأمريكي في العديد من القطاعات، مثل تجارة الأسلحة، والطائرات، والسيارات، والمعدات الزراعية.
بالنسبة لليورو، يعد العملة الوحيدة التي تنافس الدولار الأمريكي، إذ يحتل المرتبة الثانية عالميًا في التداول بعد الدولار في التجارة الدولية.
إذا نجح ترامب في الانتخابات المقبلة، فمن المتوقع أن يعود إلى سياسة تجارية صارمة مع الصين، وكخبير في مجالات الاقتصاد، سيعمل على مراجعة الميزان التجاري ويضع شروطًا جديدة. وبالنسبة للعلاقات العسكرية مع تايوان، سكون تعامله أكثر انفتاحًا مقارنةً بإدارة بايدن، رغم أنه لن يتطلب الكثير من التغييرات في هذا الملف.
أما في ما يتعلق بالشرق الأوسط، فهو منطقة ذات اهتمام أمريكي بالغ، ولاتستطيع الولايات المتحدة التخلي عنها أو تقليص نفوذها. على الرغم من وجود تحديات عدة، تسعى الولايات المتحدة لإيجاد تسويات مؤقتة وتجنب أي مواجهة عسكرية. وفي سياق الصراع في غزة بين إسرائيل وحماس، يبدو أن الأمور تحددت ولن تنتظر الانتخابات الأمريكية. حكومة نتنياهو، على الرغم من المعوقات، حققت بعض الأهداف، مثل إحداث دمار واسع في غزة، مما يدخل الفلسطينيين في أزمة مستمرة لفترة طويلة.
تواجه حكومة نتنياهو معضلة كبيرة بخصوص القضاء على تنظيم حماس، الأمر الذي يبدو معقدًا. وتجري محاولات تهدف إلى إحداث تململ داخل حماس بين صفوف الشعب الفلسطيني، بينما يأتي تحرير الرهائن في المرتبة الأخيرة من اهتمامات الحكومة. مع رحيل الحكومة، وبما اعتدنا عليه، ستسعى حكومة جديدة لإصلاح الأوضاع، بينما تبقى مصلحة إسرائيل الاستراتيجية تكمن في إبقاء الخلافات الداخلية الفلسطينية قائمة، ما يساعدها في الابتعاد عن أي التزامات تجاه الفلسطينيين أو فكرة حل الدولتين.
في الجبهة الشمالية، ترغب إسرائيل في اتفاقية جديدة تغير الواقع السائد، وهو ما يتطلب مجهودًا كبيرًا وحملة عسكرية لفرض واقع ميداني جديد. ومن ثم يمكن إجراء مفاوضات تتضمن مشاركة الولايات المتحدة. ما يهم في هذه المرحلة أن تبقى المواجهة المرتقبة، التي تبدو حتمية في الأسابيع المقبلة، ضمن إطار منضبط.
تعتبر مسألة حماية سلاسل الإمداد والتجارة العالمية في البحر الأحمر قضية حرجة تتجاوز تأثيرها الحدود الإسرائيلية والأميركية لتشمل معظم دول العالم. في الوقت الحالي، لا يُوجد حل فعال لمنع الحوثيين من استهداف المصالح الإسرائيلية والغربية في هذه المياه عبر تقنيتهم العسكرية المتطورة. وعلى الرغم من اعتقاد الإدارة الأميركية بأن هذه الهجمات ستتوقف بعد انتهاء العمليات العسكرية في غزة، إلا أن احتمالات التصعيد قد تظل قائمة إذا شنت إسرائيل حربًا ضد لبنان. في هذه الحالة، قد يتحول تحالف “حارس الازدهار” إلى قوة غير فعالة، مما يستدعي ابتكار آلية جديدة لحل هذه الأزمة.
في سياق هذا الصراع المتزايد، تبقى إسرائيل مستعدة لاستخدام جميع قدراتها العسكرية والتكنولوجية. ويدرك قادتها أن الفشل في معالجة التهديدات من حزب الله قد يؤدي إلى تبادل مدمّر للضربات النارية عن بعد، مستهدفين بشكل مباشر مراكز القيادة والمرافق الحساسة. فإن لم يتم احتواء الهجوم بالصورة المطلوبة، فقد تؤدي الأمور إلى اجتياحات برية مُحدَّدة الدقة أو أكبر.
يكمن التحدي الأكبر الذي تواجهه إسرائيل في كيفية “تحييد” عدد هائل من وسائط إطلاق الصواريخ التابعة لحزب الله في الضربة الأولى، والتي ستسعى لأن تكون فجائية مماثلة لما حدث في عام 1967. ترتكز إسرائيل على قدراتها الجوية والصاروخية، حيث تصدّرت المرتبة 17 في ترتيب القوة العسكرية العالمية لعام 2024 وفقًا لموقع Global Fire Power، مع 612 طائرة حربية متنوعة المهام. لكن رغم هذه القوة، تدرك إسرائيل جيداً أن قدرات حزب الله تفوق التوقعات وتعتمد على أساليب غير متوقعة ومباغتة، مما يجعلها تستعد لجميع السيناريوهات.
لا ننسى أيضًا أن تأثيرات السياسات الخارجية الأميركية تلعب دورًا في تحديد مسار الأحداث الصراعية. إذا ألقينا نظرة على الأوضاع في العراق حيث فشلت الجهود الأميركية في تأسيس حكومة موالية، وكذلك على الانسحاب المفاجئ من أفغانستان، نجد أن أي خطأ في إدارة الأزمة الأوكرانية قد ينجم عنه تداعيات غير قابلة للإصلاح. في الداخل والخارج، النتائج التي تترتب على هذه الأخطاء تُحمَّل إلى دول وأطراف مختلفة، مما يجعلها تجربة مريرة على العديد من الجبهات.
باختصار، تُظهر هذه التوترات أننا أمام مرحلة جديدة من الصراع، حيث يسعى كل طرف لإظهار قوته، في محاولة للخروج بأقل الخسائر. في النهاية، لا يهم من سيعلن النصر بل الأهم بنود الاتفاق الذي سيتم التوصل إليه، كما جرت العادة، برعاية دولية.





