
العقيد الركن م. ظافر مراد
ألمانيا الآن في مرحلة جديدة لتحديث قدراتها العسكرية، وهذا ليس خياراً بل استجابة للتحديات الإقليمية. بالرغم من وجود الاتحاد الأوروبي، تفتقر أوروبا إلى وحدة حقيقية. نتيجة لذلك، تتجه القوات المسلحة الألمانية (البوندسفير) نحو عملية تحديث شاملة وتحول استراتيجي كبير بعد عقود من القيود الدفاعية. هذا التحول لا يقتصر فقط على تعزيز القدرات، بل يتضمن إعادة هيكلة شاملة في التمويل والدور الاستراتيجي لألمانيا في القارة الأوروبية، مما يجعلها تسعى لتكون القوة الرائدة في المنطقة.

هناك عاملين رئيسيين يسهمان في عودة ألمانيا للريادة كقوة عسكرية في أوروبا، الأول هو قدرتها المالية والاقتصادية، حيث تعد ألمانيا واحدة من أكبر اقتصادات أوروبا، مما يمنحها القدرة على استثمار موارد كبيرة في الدفاع. والثاني هو وجود بنية صناعية دفاعية قوية مع شركات مشهورة مثل Rheinmetall وKMW وHensoldt، بالإضافة إلى الشراكات الصناعية مع دول أوروبية تعزز سلسلة التوريد والاستقلالية الدفاعية.

خطط التحديث تشمل:
- زيادة الميزانية الدفاعية: تعهدت ألمانيا برفع إنفاقها على الدفاع إلى 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2029، حيث سيتم استثمار مئات المليارات من اليورو ليصل الإنفاق إلى حوالي 162 مليار يورو مع إعادة تقييم القيود المتعلقة بالإنفاق الدفاعي.
- تحديث القوات البرية: تتطلع ألمانيا لشراء آلاف العربات المصفحة وناقلات الجند، إلى جانب تطوير دبابات ليوبارد، نظراً لما تفرضه طبيعة المخاطر الأمنية في أوروبا، خاصة مع القوة البرية الكبيرة لروسيا.
- تعزيز القوات الجوية: تسعى ألمانيا إلى شراء مقاتلات إضافية وتعزيز قدرات الدفاع الجوي، مع التركيز على الحصول على طائرات F-35 ضمن صفقات عاجلة لمواجهة التحديات الحالية.
- الرقمنة العسكرية: تسعى ألمانيا لإنشاء قاعدة لحرب إلكترونية وعمليات سيبرانية من خلال تحسين منظومات القيادة والسيطرة وتطوير قدرات التعامل مع المعلومات.

تسعى ألمانيا إلى تحقيق دور قيادي في الدفاع عن أوروبا، فضلاً عن كونها تعمل على قيادة التحول الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي بشكل عام.
شهدت أوروبا، بعد العديد من التطورات السياسية والأمنية، ظهور ثغرات في التحالف والتنسيق الخاص بالسياسات الخارجية مع الولايات المتحدة. وفي ظل إدارة ترامب، أصبح هناك توجه واضح نحو السعي للحصول على استقلالية أكبر وعدم اعتماد كامل على الولايات المتحدة، خاصة فيما يتعلق بالسياسات الدفاعية والأمنية.
على صعيد التحديات، تتضح معضلة الوقت بالنسبة لألمانيا. فخطط تحديث الجيش ضخمة، والعقبات المادية والتقنية ليست سهلة. من المحتمل أن يؤخذ ذلك بعين الاعتبار، حيث قد لا تظهر نتائج هذه التحديثات بشكل ملموس إلا بعد 10 سنوات على الأقل، وهو زمن طويل بالنظر إلى التهديدات الناتجة عن الحرب الروسية-الأوكرانية. هذه الظروف قد تؤدي إلى مواجهة شاملة في أوروبا. بالإضافة إلى ذلك، لا يزال الدعم المجتمعي لجهود التسلح منخفضاً، حيث تشير استفتاءات إلى أن نسبة كبيرة من الألمان تعارض الدخول في صراعات جديدة أو سباقات تسلح. كما أن رفع عدد الجيش من 182 ألف إلى 260 ألف كما هو مقترح من قبل الناتو يبدو مهمة صعبة.
يعتبر التفوق العسكري في أوروبا شرطاً ضرورياً، لكنه لا يضمن بالضرورة القيادة السياسية والدبلوماسية المطلوبة. في الواقع، تفتقر ألمانيا حتى الآن إلى الكفاءة والخبرة في هذا المجال، وهو ما قد يؤثر سلباً على مكانتها المستقبلية.
مع ذلك، يمكن القول إن البوندسفير تسير في طريقها لتصبح واحدة من أبرز الجيوش التقليدية في أوروبا، وربما القوة الرائدة إذا تمكنت من تنفيذ خططها. نجاحها يعتمد على الالتزام المستمر، والتنفيذ الفعال، والتغلب على التحديات الهيكلية والبشرية. تأتي ألمانيا الآن أمام فرصة تاريخية، حيث يمكنها أن تتحول 162 مليار يورو المخصصة للتطوير إلى قوة عسكرية حديثة ذات مصداقية حقيقية، أو قد يبقى المشروع مجرد تحديثات شكلية دون قدرة تشغيلية فعلية في ساحات النزاع. المعركة الحقيقية تكمن في التدريب، وإدارة العتاد، واستغلال التكنولوجيا على نحو فعّال. الزمن هو الذي سيفصح عما إذا كانت هذه المرحلة تمثل بداية جيش جديد أو مجرد ضجيج سياسي بتمويل مؤقت.





