بوسيدون: الطوربيد الذي صاغ مفهوم الردع الجديد

العقيد الركن م. ظافر مراد
في عالم تتراجع فيه الفواصل بين الخطر والقرار، وتتبدل المسافات الجغرافية إلى ساحات صراع، من الأرض إلى البحر والجو والفضاء، تظهر روسيا لتؤسس لقواعد جديدة: القوة لم تعد تقاس بعدد الرؤوس النووية أو سرعة الصواريخ، بل بقدرة الأمة على كل ما يمكن تدميره من بعد. قالها بوتين سابقاً “أي جدوى من عالم لا تُوجد فيه روسيا؟” وحين يُعيد تأكيدها، يهدد بالدمار الذي يأتي من أعماق البحار. ولهذا، تم ابتكار غواصة “بوسيدون” النووية المسيرة، التي ليست مخصصة فقط لخوض الحروب النووية، بل قد تكون وسيلة لمنعها، فهي تُعبر عن العقل المبرمج للانتقام في ظل مواقعه البحرية.
يعتبر الطوربيد العملاق “بوسيدون-Poseidon” أكثر من مجرد سلاح تقني، بل هو مفهوم جديد يحاكي رد فعل روسيا على قيودها الجغرافية وصراعاتها الجيوبوليتيكية. فروسيا بعيدة عن البحار الدافئة، وتفتقر للانتشار البحري الواسع، مما يجعلها في مأزق مائي قديم؛ لذا، يُعتبر بوسيدون الحل القادرة على إحداث تغيير يُعيد لروسيا نفوذها البحري المفقود ويحررها من هذه القيود. بهذا الشكل، تتنفس روسيا من أعماق المحيطات مجسدةً قوة هجومية جديدة.

يُعتبر طوربيد بوسيدون العملاق بمثابة وحش تكنولوجي بامتياز، حيث يبلغ طوله حوالي 22 متراً وقطره 1.6 متر. وقد تم تصميمه ليعمل بشكل مستقل، حيث يمكنه الغوص لمئات الأمتار وقطع مسافات شاسعة دون أي تدخل بشري. يمتلك سرعة قاتلة تصل إلى 200 كم/س ويمكنه المناورة في عمق يصل إلى 1000 متر، مما يجعله خارج نطاق معظم أنظمة الكشف التقليدية. يحمل رأساً نووياً بقوة تدميرية مدهشة تصل إلى 100 ميغاطن، أي ما يعادل القدرة التدميرية لأكثر من ألف قنبلة مثل التي دُمرت بها هيروشيما. يتم إطلاقه من غواصات ضخمة مثل بيلغورود وخاباروفسك، والتي قادرة على حمل ستة طوربيدات من هذا النوع.

تعتبر القيادة الروسية هذا الطوربيد تحت مسمى “اليد الميتة البحرية”، لأنه قادر على تنفيذ رد فعل انتقامي حتى في حال تدمير مركز القيادة الروسي بالكامل. ويُعتقد أن فكرة “بوسيدون” ظهرت كنتيجة للانسحاب الأمريكي من معاهدة الحد من الأسلحة النووية المتوسطة في 2019. ومع التحديات التي تواجهها في أوكرانيا، تركز روسيا على تعزيز مفهوم “الردع الانتقامي”. إذ تُدرك روسيا أن القوة النووية ليست فقط في تدمير الأعداء، بل في القدرة على تحقيق ردود فعل سريعة وفعالة. وهذا يتطلب دينامية عالية في كيفية توزيعها وإطلاقها بطرق يصعب الاعتراض عليها. ويمثل بوسيدون إرادة نووية تمتد حتى بعد تدمير القيادة، مما يبرز رغبة بوتين في الانتقام، حتى في حال وقوع الكارثة على روسيا.

عندما أعلن ترامب عن مشروع “القبة الذهبية” الذي يهدف إلى حماية السماء الأمريكية، والذي تُقدر تكلفته بحوالي 175 مليار دولار، ظهرت المخاطر من أعماق المحيطات لتجعل من هذا المشروع بلا فائدة، خاصة أن بوسيدون يمتلك القدرة على تدمير المدن الساحلية من لندن إلى نيويورك دون أن يُكتشف أو يُواجه. هذا السلاح يمكنه من خلال انفجاره في الماء أن يتسبب في تكوين أمواج تسونامي هائلة تغرق العديد من المدن الساحلية. وفي ذات السياق، أصدر ترامب أوامره لاستئناف التجارب على الأسلحة النووية الأمريكية بعد انقطاع دام لأكثر من 30 عامًا، وذلك ردًا على التهديدات الروسية بشأن طوربيد بوسيدون وصاروخ كروز المُزود بالطاقة النووية.
إن بوسيدون ليس مجرد سلاح لتحقيق النصر، بل يُعتبر سلاحاً لالتحاق الهلاك المتبادل، إنه ليس سلاح المستقبل بل صدى لأخطاء الماضي التي لم تُعالج بعد. يُعد هذا السلاح تذكيراً بأن من يتحكم في أعماق المحيطات لا يحتاج لإعلان قوة صواريخه على السطح، فهناك همسات تُخبرنا بأن الردع الحقيقي يكمن في إخفاء النوايا حتى اللحظة الأخيرة.
				



