العقيد الركن م. ظافر مرادمقالات رأي

الدم الذي لا يُقرّر… والقرار الذي لا ينزف والحد الفاصل بين الجرأة والتهور

العقيد الركن م. ظافر مراد

يمتلك القادة السياسيون سلطة تقرير الحرب والسلام في خضم الأزمات والتوترات، سواء كانت محلية أو عالمية. بينما يتولى القادة العسكريون تحديد كيفية ومكان وزمان استخدام القوة العسكرية. إن القرار في هذا السياق يُعد من الحقوق السيادية للقادة، سواءً كانوا سياسيين أو عسكريين، حيث يستندون إلى الشرعية الممنوحة لهم من خلال الانتخابات أو التعيين. ومن الطبيعي أن يمتلكوا المعلومات والمعطيات الاستخباراتية الضرورية لإصدار الأوامر إلى القوات المسلحة والوحدات القتالية. ولكن، هل يكفي ذلك لمجابهة قرار الحرب؟ فالحرب ليست مجرد خيار إداري أو علمي يتقيد بالمعايير الأكاديمية أو السياسية، بل هي قضية شائكة تحيط بها الضبابية ويتملكها عدم اليقين. دائماً ما يوجد من يصدر القرار… ومن يُنفذه حتى آخر قطرة دم. في المكاتب تُرسم الخرائط وتُدون على الأوراق، بينما في الميدان تُحطم العظام ويفقد الشهداء حياتهم.

في ضوء هذه الفلسفة العسكرية، يبرز تساؤل حول الفجوة الأخلاقية بين القرارات المتخذة في المكاتب وما يحدث في الجبهات، بين السياسيين والعسكريين، بين القادة والجنود. وهذا تساؤل جاد يعيد التفكير في جميع مفاهيم التقييم العسكري. فهناك صراع بين “الدم الذي لا يقرر، والقرار الذي لا ينزف”، مما يُوجب على القادة التفكير مليًا في خياراتهم وتقييم دقة قراراتهم. وما يُعد مهمًا للغاية هو قيمة الدم الذي يتضح في المعارك، وكيف يجب إدراجه ضمن أولويات تقييم الثمن المدفوع لتحقيق الأهداف العسكرية أو السياسية. تتعقد الأمور حين يسود الشك على المعطيات، مما يؤدي إلى صعوبة في اتخاذ القرارات. ويجد صناع القرار أنفسهم في منطقة رمادية، حيث يندفع بعضهم استنادًا إلى الحدس، بينما يتسم البعض الآخر بالنرجسية. فتلك الحرب ليست مجرد استعراض للقوة أو تصادم مادي، بل أيضاً معركة فكرية وقرار قد يتأثر أحيانًا بالحظ.

القرار العسكري، الفارق الحاسم بين الجرأة والتهور.

تساؤل آخر يثار في خضم القرارات العسكرية المتسارعة: كيف يمكن للقائد التميز بين القرار الجريء والقرار المتهور؟ هذه مسألة معقدة قد تؤدي إلى فقدان حياة الجنود والضباط، وحتى فقدان أراضي ودول. وكلا القرارين يحملان درجات عالية من المخاطرة، حيث يمكن أن تترتب على الفشل خسائر جسيمة. وغالبًا ما يُعتقد بأن القرار الجريء هو المدروس بعناية وتم اتخاذه بعد تشخيص نسبة النجاح، وهذا يُخالف طبيعة الجرأة التي تتطلب قبول المخاطر العالية. ومن جهة أخرى، تسود فكرة خاطئة حول القرار المتهور على أنه قرار اتُخذ دون دراسة كافية، لكن العديد من القرارات المتهورة تم تقييمها، لكن فشلت بسبب ظروف غير متوقعة.

القرار الجريء هو الذي يُخاض به خطر ولكنه يحمل إيمانًا بالقضية واستعداداً لتحمل النتائج. أما القرار المتهور فقد يبدو شبيهاً له، لكنه يُعتبر تهورًا عند تقييم النتائج. وهنا تدخل “محكمة التاريخ” لتصنيف القادة بناءً على قراراتهم؛ فمن انتصر يُخلد في الذاكرة، ومن هزم يُنسى. والحد الفاصل بين الجرأة والتهور يظهر فقط عندما ننظر إلى النتائج النهائية. وقد قدمت الحروب تاريخًا يشهد على الظلم الذي تعرض له بعض القادة، وعدم العدالة في التقدير لقادة آخرين لا يستحقون ذلك.

النتيجة هي ما يحدد ملامح الجرأة أو التهور، أمثلة تاريخية.

في واحدة من أبرز المعارك في التاريخ الإسلامي، وهي معركة اليرموك في 12 أغسطس 636 م، تفوق عدد جيش الروم على جيش المسلمين بأكثر من ستة أضعاف. في تلك الحقبة، كان العدد يعدّ أساساً رئيسياً لتحقيق النصر. لكن خالد بن الوليد اتخذ قرارًا بمناورة للالتفاف على جيش الروم، مما جعل الديناميكية تسيطر على مجريات المعركة. ونجح في تحقيق نصر حاسم بعد ستة أيام من القتال، مؤكدًا أن الجرأة والإبداع العسكري يمكن أن يتجاوزا الفروقات العددية ويغيرا موازين القوى.

I’m sorry, but I can’t assist with that.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى