العقيد الركن خالد المطلقمقالات رأي

تحولات الشرق الأوسط: صراع الأهداف وإستراتيجيات التجزئة

العقيد الركن خالد المطلق – كاتب وباحث سوري في الشؤون العسكرية والأمنية

يشهد الشرق الأوسط تحولات جيوسياسية متسارعة ومعقدة، تتجاوز في طبيعتها مجرد الصراعات التقليدية. فما حدث مؤخرًا بين إسرائيل وإيران، والذي بدا وكأنه عملية جوية محدودة، يثير تساؤلات عميقة حول طبيعة الصراع المستقبلي في المنطقة. لا يمكن اعتبار هذه الجولة حربًا شاملة، بل هي أقرب إلى “جولة استكشافية” بأهداف غير معلنة، تمهيدًا ربما لحرب حقيقية لم تبدأ بعد، ستكون إيران طرفًا رئيسيًا فيها، وتتجاوز رغبات دول المنطقة العربية وغير العربية.

يمكن تحليل العملية الأخيرة بين إسرائيل وإيران كخطوة محسوبة لتحقيق أهداف استخباراتية وإستراتيجية بالغة الأهمية. ففي المقام الأول، سعت هذه العملية إلى استكشاف بنك الأهداف الإيرانية، وترسانة أسلحتها، وقدراتها العسكرية بشكل دقيق. وبالإضافة إلى ذلك، هدفت إلى تقييم مدى تأثير القدرات الإيرانية على أمن إسرائيل والمصالح الأمريكية في المنطقة، عِلاوة على ذلك، كان من بين الأهداف غير المعلنة تحديد حجم الدعم المحتمل الذي يمكن أن تتلقاه إيران من حلفائها، مثل الصين وروسيا. وفي سياق إقليمي أوسع، سعت هذه الجولة إلى تقييم تفاعل أذرع إيران في المنطقة، كالجماعات الوكيلة، بالإضافة إلى رصد الموقف العربي، وخاصة الخليجي، تجاه أي تصعيد محتمل. هذه الأهداف مجتمعة تشير إلى أن ما حدث هو جزء من عملية جمع معلومات إستراتيجية، لا مجرد رد عسكري.

ولفهم السياق الحالي، لا بد من استعراض التحولات الجيوسياسية التي طرأت على الشرق الأوسط. ففي الماضي، وتحديدًا بعد سقوط الدولة العثمانية وتنفيذ اتفاقية سايكس بيكو، تقاسمت فرنسا وبريطانيا النفوذ في المنطقة. آنذاك، لم يكن للولايات المتحدة أي دور يُذكر، إذ كانت تتبع مبدأ “جيمس مونرو” القائم على الانكفاء الداخلي. كما أن إسرائيل لم تكن موجودة ككيان سياسي على الخارطة، ولم يكن النفط قد اكتسب أهميته الإستراتيجية كمصدر رئيسي للطاقة عالميًا، أما اليوم، فقد تغير المشهد بشكل جذري، إذ أصبحت الولايات المتحدة القوة العظمى عالميًا، وتصاعدت إسرائيل لتصبح من أقوى دول المنطقة عسكريًا وتكنولوجيًا، بالإضافة إلى ذلك، بات النفط والغاز المصدر الرئيسي للطاقة في العالم، ما يمنح المنطقة أهمية إستراتيجية قصوى. هذه التغيرات الجذرية تتطلب، من منظور القوى الكبرى، إعادة ترتيب المنطقة لتتوافق مع مصالح القوى المهيمنة، وهذا ما يفسر ظهور مشاريع إستراتيجية مثل “الشرق الأوسط الجديد”.

يُعد مشروع “الشرق الأوسط الجديد”، الذي طرحه المفكر البريطاني اليهودي برنارد لويس، محورًا أساسيًا في فهم الديناميكيات الحالية.، حيث تقوم نظرية هذا المشروع على تقسيم دول المنطقة على أُسس عرقية وطائفية بهدف إضعاف الجميع هذا الإضعاف الممنهج يسهل على القوى الكبرى، الاستعمارية سابقًا والمهيمنة حاليًا، السيطرة مجددًا على المنطقة وتأمين مصالحها. وقد حظيت هذه الإستراتيجية بموافقة الكونغرس الأمريكي عام 1983، ما يؤكد بعدها الإستراتيجي.

لم يكن تنفيذ هذا المشروع فوريًا، بل مر بمراحل متعددة وهي:

1991: سقوط الاتحاد السوفييتي: شكل هذا الحدث بداية التمهيد لتطبيق المشروع، مع تغير موازين القوى العالمية وصعود الأحادية القطبية للولايات المتحدة.

2001: أحداث 11 سبتمبر: منحت هذه الأحداث الولايات المتحدة شرعية للتدخل العسكري في أفغانستان ثم العراق، وكانت بمثابة الانطلاقة الفعلية لتنفيذ المشروع على الأرض.

2011: ثورات الربيع العربي: مثلت هذه الثورات المرحلة قبل الأخيرة من الخطة فقد أدت هذه الثورات إلى فوضى داخلية وتفكك في بعض الدول، مما مهد للفصل الأخير من مشروع الشرق الأوسط الجديد، والذي يتضمن إعادة تشكيل الحدود والكيانات.

ولعل أهم عامل من عوامل نجاح خطة برنارد لويس هو تخويف العالم من “الإسلام” وربطه بالإرهاب، ويهدف هذا التخويف إلى منع توحيد قوى العالم الإسلامي، فلو أُعطي هذا العالم طاقة للتنافس والنهوض فإنه قد يعيد تشكيل المشهد العالمي ويؤثر على النفوذ الغربي خاصة في أوروبا، والهدف من وراء ذلك هو منع ظهور قوة إسلامية موحدة قد تعيد تشكيل المشهد العالمي وتؤثر على النفوذ الغربي، خاصة في أوروبا، وبالتالي إبقاء العالم الإسلامي في حالة ضعف وتناحر لضمان الحفاظ على الهيمنة الغربية على المنطقة.

في هذه الظروف المعقدة يواجه الشرق الأوسط تحديًا مزدوجًا يجعله وكأنه “بين فكي كماشة” تمثلت أدواتها في الإضعاف الذاتي من جهة حيث تتمثل النزاعات الداخلية، سواء كانت عرقية أو طائفية وهي عامل أساسي لإضعاف المنطقة من الداخل، مما يسهل التدخلات الخارجية، ومن جهة أخرى النفوذ الأجنبي حيث سيؤدي الضعف الذاتي إلى زيادة سيطرة القوى الكبرى على مقدرات المنطقة ومستقبلها، وتحويلها إلى ساحة لتصفية الحسابات الدولية، إن عملية تشكيل المنطقة مستمرة، ومستقبلها يبقى غامضًا في ظل هذه التجاذبات، وبات واضحا أن الخوف من عودة “الخلافة” أو أي شكل من أشكال التوحيد الإسلامي كان دافعًا لسياسات تهدف إلى إبقاء المنطقة منقسمة، لضمان ألا تقع أوروبا بين قوتين إسلاميتين متنافستين، واحدة من الشرق الأوربي متمثل في دول الاتحاد السوفييتي السابق وأخرى من الغرب المتمثل في إيران والدولة التركية والدول العربية.

خلاصة القول إن مشروع “الشرق الأوسط الجديد” ليس مجرد نظرية، بل هو عملية مستمرة لإعادة تشكيل المنطقة وفقًا لأجندات معينة وفهمنا لأبعاد هذا المشروع وتحولاته ضروري لفهم الديناميكيات الحالية والمستقبلية في الشرق الأوسط. فالتحولات الجيوسياسية ليست أحداثًا عشوائية، بل هي نتاج إستراتيجيات طويلة الأمد، والتوترات الأخيرة بين إيران وإسرائيل قد تكون مجرد مقدمة لما هو قادم، مما يستدعي من دول المنطقة تحليلًا عميقًا وتأهبًا للمراحل القادمة، فهل ستتمكن هذه الدول من تجاوز هذه المحدِّدات التاريخية والجغرافية، أم أنها ستظل أسيرة لمشاريع تُصمم خارج حدودها؟ هذا هو التحدي الأكبر الذي يواجه الشرق الأوسط في الألفية الثالثة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى