
العقيد الركن خالد المطلق – كاتب وباحث في الشؤون العسكرية والأمنية
تبدو الأوضاع في الشرق الأوسط وكأنها برميل متفجر يوشك على الانفجار، خاصة عقب الضربات الإسرائيلية الأخيرة. يتساءل الجميع: هل ستنخفض حدة التصعيد من جانب إيران وتقبل بشروط الولايات المتحدة في ملفها النووي؟ الأمر ليس بالبساطة التي قد تبدو عليها، فطهران لن تظهر بمظهر الضعف، لكن الضغوط قد تضطرها إلى إعادة النظر في مواقفها.
الوضع معقد للغاية، وكل تحرك قد يقود إلى مواجهة أكبر، أو ربما يفتح بابًا نحو التهدئة. إذا ما قررت إيران تغيير لهجتها، فقد نشهد توقف الضربات الإسرائيلية، وربما تجميد الأنشطة العسكرية في المنطقة. ولكن، هل سنكون أمام فترة هدوء مؤقت، أم بداية حقبة جديدة؟ التاريخ يعلمنا أن الكثير من الأمور هنا لا تسير كما هو متوقع.
إذا عادت المفاوضات، ستكون أشبه بالمشي على حبل مشدود، حيث يسعى كل طرف لتحقيق أكبر مكاسب بأقل تكلفة. والتساؤل الحقيقي هو: من سيتنازل أولاً؟ ومن سيقع عليه الثمن؟ الوضع في المنطقة حساس جدًا، واللعبة العسكرية والسياسية أصبحت أكثر تعقيدًا مما مضى. أمام إيران خيارات صعبة، فإذا رغبت في تهدئة الأوضاع مع أمريكا، فلن يكون الأمر مجرد تخفيف للضغوط العسكرية، بل سيتطلب تنازلات مؤلمة. تخيل، على سبيل المثال، أن يُطلب منها تفكيك أجزاء حيوية من برنامج التخصيب، أو تقليل عدد أجهزة الطرد المركزي التي استثمرت فيها لسنوات، بل وحتى تقليص مستويات التخصيب إلى ما دون ما اتفقوا عليه سابقًا في الصفقة النووية. ثم تأتينا مسألة التفتيش، تلك الكلمة التي تُشعل حفيظة أي مسؤول إيراني. أي زيارة مفاجئة لمواقعهم النووية أو مراقبة دائمة ستشعرهم بأنهم تحت المجهر، ولكن قد يكون ذلك الثمن الذي يدفع لاستعادة بعض الثقة الدولية.
في زخم الصراع حول الملف النووي، يظهر أيضًا ملف الصواريخ الباليستية كعقدة رئيسية. الولايات المتحدة وإسرائيل لن تكف عن الضغط لإدراج هذا المحور في أي اتفاق قادم. وهناك أيضًا الملف الأكثر حساسية: تقليص نفوذ إيران الإقليمي عبر وكلائها. فعلى أي نحو ستتخلى طهران عن أدوات قدرتها التي بنتها بعناية؟ إذا حصلت هذه التنازلات، ستكون بمثابة جرح في كبريائهم الاستراتيجي.
في المقابل، قد تحقق إيران مكاسب كبيرة لو قبلت بهذه الطروحات. تخيل لو خُففت العقوبات عنها فورًا، فسيكون ذلك مثل إنقاذ مريض على وشك الإغماء بجرعة أكسجين منعشة. سيكون لاقتصادها المتداعي فرصة للانتعاش، وقد تعود صادرات النفط لتضخ العملات الأجنبية في خزائنها.
أما على صعيد العلاقات الدولية، فقد تحصل تحولات مثيرة، بدءًا من إعادة فتح السفارات وصولًا إلى عودة طهران إلى طاولة الحوار مع واشنطن وبروكسل. وهذا قد يكسر بشكل جزئي ذلك الحصار الدبلوماسي الذي عانت منه لسنوات. إن استقرار الأوضاع قد يعود بالنفع على المنطقة بأسرها، وقد تركز إيران مواردها على البناء الداخلي بدلاً من الانفاق على صراعات خارجية. والدول المجاورة ستشعر بالراحة، وقد تتحول أولوياتها من التسلح إلى تطوير مشاريع البنية التحتية. والأسواق النفطية قد تهدأ أخيرًا بعد سنوات من الاضطرابات التي أنهكت الجميع، وقد يحين وقت التركيز على تنويع الاقتصادات بدل الانشغال بالقلق المستمر من الأزمات الإقليمية.
إيران الآن أمام مفترق طرق عصيب، حيث تلوح المصالحة في الأفق، لكن ثمنها السياسي قد يكون باهظًا. فالحرس الثوري والمتشددون لن يتركوا بسهولة ما يعبرون عنه كمكاسب سيادية، فهم يعتبرونها خطوطًا حمراء لا يمكن تجاوزها. كما أن الوضع الداخلي قد يشهد توترات سياسية، فالشارع الإيراني حساس تجاه أي خطوة قد تُعتبر تنازلاً عن المبادئ، مما قد يؤدي إلى ظهور معارضة تدين ما تراه مساومة على كرامة البلاد.
على صعيد المؤسسات العسكرية، قد تظهر انقسامات غير متوقعة، قد ترفض بعض العناصر الامتثال لسياسات جديدة تراه مخالفة لعقيدتها. وهذا قد يولد بؤر توتر داخل مؤسسات كانت تبدو متماسكة حتى الآن.
أضف إلى ذلك أن الميليشيات المدعومة من إيران قد تضطر إلى إعادة تقييم استراتيجياتها في المنطقة، لكن ذلك قد يتطلب تقليص الدعم للجماعات المسلحة، مما يفتح المجال أمام قوى جديدة لتملأ الفراغ، وبالتالي قد يحدث تغيرات غير متوقعة في موازين القوى الإقليمية.
حتى لو وُقعت المصالحة، فالأوضاع لن تستقر تمامًا، فالبؤر المتفجرة في الشرق الأوسط تعرف تقلباتها المفاجئة، والجميع سيبقى في حالة ترقب. ستستمر إسرائيل وحلفاؤها في متابعة التطورات، بينما ستسعى إيران لاختراع طرق جديدة لتعزيز نفوذها. قد نشهد فترة من الهدوء النسبي، لكن مصادر التوتر ستبقى كامنة، تنتظر الوقت المناسب للظهور مجددًا.
ختامًا، لا شك أن الشرق الأوسط يعيش حاليًا لحظات مصيرية، والقرارات الراهنة ستترك آثارها لعقود قادمة.
إيران تواجه تحديًا خطيرًا في المرحلة المقبلة. القبول بالشروط التي تفرضها الولايات المتحدة يُعد خيارًا صعبًا للغاية، حيث يمكن أن يترتب على ذلك تداعيات كبيرة على الصعيدين الداخلي والخارجي. ومع ذلك، قد يكون هذا هو السبيل الوحيد لتفادي كوارث أكبر. الجميع مدرك أن نشوب حرب إقليمية في الوقت الراهن سيكون له أثر مدمر وغير محدد، ولا يرغب أحد في رؤية المنطقة تتحول إلى ساحة قتال عشوائية.
الموقف معقد بشكل كبير، حيث ترى إيران أن تقديم أي تنازلات قد يضر بمكانتها الإقليمية. ولكن في الوقت نفسه، يتطلب العمل الدبلوماسي اتخاذ خطوات جريئة؛ فالسلام لا يتحقق بدون وجود تضحيات، وهذا الأمر يصعب تحمله، ولكنه ضروري. المنطقة في موقف صعب جدًا، والتساؤل الجوهري الذي يطرح نفسه هو: هل يمكن أن تنجح الدبلوماسية في إحداث التغيير المطلوب قبل فوات الأوان؟ الوقت يمر، والقرارات بحاجة إلى أن تُتخذ بعناية، فكل شيء متعلق بالمستقبل يعتمد على ما سيتم في هذه اللحظات الحرجة.








