حاملة المسيرات “جيو تيان” الصينية تحول إستراتيجي وتحديات التفوق الجوي في القرن الحادي والعشرين

العقيد الركن خالد المطلق – كاتب وباحث في الشؤون العسكرية والأمنية
المتابع لمشهد تطور صناعة الطيران العسكري العالمي يلمس تحولاً جذرياً تبرز فيه الصين كقوة صاعدة حققت قفزات نوعية مذهلة في صناعة طائراتها الحربية خلال العقود الأخيرة، فبعد فترة طويلة من الاعتماد على استيراد التكنولوجيا وتعديل التصاميم الأجنبية انتقلت بكين لتصبح لاعباً محورياً في تطوير وإنتاج الطائرات العسكرية المتطورة، يتوج الكشف المرتقب عن حاملة الطائرات المسيرة “جيو تيان” – والتي تعني “السموات التسع” هذا المسار الطموح يبشر بدخول الصين حقبة جديدة في تكنولوجيا الحرب الجوية غير المأهولة وتكتيكاتها المتقدمة، ولا يعكس هذا التطور القدرات الصينية المتنامية فحسب بل يثير أيضاً تساؤلات جوهرية حول مستقبل القوة الجوية وتوازن القوى العالمي.
مسيرة الصين نحو الريادة: من الاعتماد إلى الابتكار
لم تكن رحلة الصين نحو الريادة في الصناعات الجوية العسكرية يسيرة، فبعد حقبة طويلة من الاعتماد الرئيسي على النماذج السوفيتية شرعت بكين مع أواخر القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين في ضخ استثمارات هائلة في مجالات البحث والتطوير، كان الهدف الأساسي بناء قاعدة صناعية وقدرات تكنولوجية وطنية مستقلة، وقد تكللت هذه المساعي الدؤوبة بالنجاح حيث أسفرت عن تطوير طائرات مقاتلة بارزة مثل “جيه-10” (J-10)، التي مثّلت نقطة تحول جوهرية في قدرة الصين على تصميم وإنتاج مقاتلات حديثة ذاتياً، علاوة على ذلك شهدت السنوات اللاحقة ظهور المقاتلة الشبحية من الجيل الخامس “جيه-20” (J-20)، وهو إنجاز وضع الصين ضمن النخبة العالمية للدول المتمكنة من هذه التكنولوجيا فائقة التطور، لم يقتصر هذا التقدم على المقاتلات فحسب بل امتد ليشمل تطوير طائرات نقل إستراتيجي حيوية مثل “واي-20” (Y-20)، وشمل أيضاً تطوير قاذفات قنابل إستراتيجية متقدمة، مما يؤكد على شمولية هذا التحول وعمقه.

“جيو تيان”: ثورة في تكنولوجيا الطائرات المسيرة
في سياق هذا التصاعد التكنولوجي اللافت أولت الصين اهتماماً إستراتيجياً متنامياً بالطائرات بدون طيار (المسيرات) مستكشفة تطبيقاتها العسكرية المتنوعة، لكن هذا الاهتمام لم ينحصر في إنتاج المسيرات التقليدية المخصصة للاستطلاع والهجوم فحسب بل تجاوز ذلك ليشمل تطوير مفاهيم عملياتية مبتكرة ورائدة، وتُعدُّ حاملة الطائرات المسيرة “جيو تيان” أحدث وأبرز هذه التوجهات الطموحة، تصف التقارير المتوفرة “جيو تيان” كطائرة بدون طيار عملاقة مُصممة لحمل وإطلاق أسراب من المسيرات الأصغر حجماً ذات المهام المتعددة والتي قد تشمل مسيرات هجومية انتحارية أو وحدات استطلاع متقدمة أو طائرات مخصصة للحرب الإلكترونية.
من المتوقع أن تتمتع “جيو تيان” بقدرات فائقة مثل مدى طيران استثنائي وقدرة على التحليق على ارتفاعات شديدة العلو مما يؤهلها لتكون منصة قيادة وسيطرة متقدمة، وفي الوقت ذاته قاعدة إطلاق جوية مرنة يصعب على الدفاعات التقليدية رصدها واعتراضها، وقد تم الكشف عن هذا المفهوم الواعد خلال فعاليات النسخة الخامسة عشرة من معرض الصين الدولي للطيران والفضاء المرموق في مدينة تشوهاي، وتفيد التقارير الأخيرة الصادرة عن وسائل الإعلام الرسمية الصينية من أهمية هذا الحدث حيث تشير إلى أن اختبارات الطيران الأولية لهذه المنصة الفريدة قد تبدأ بحلول منتصف العام الجاري 2025، ويُنذر هذا التطور في حال نجاحه بتحقيق قفزة نوعية في قدرات الصين على صعيد الحرب غير المتماثلة وتوسيع المدى الإستراتيجي لعملياتها الجوية.

الأبعاد الإستراتيجية والآفاق المستقبلية
لا شك أن تطوير حاملة طائرات مسيرة بإمكانيات “جيو تيان” الموصوفة ينطوي على أبعاد إستراتيجية بالغة الأهمية، فهذا المشروع الطموح لا يقتصر على كونه دليلاً على النضج التكنولوجي المتقدم الذي بلغته الصين في مجال الصناعات الجوية فحسب بل إنه وبشكل أعمق يومئ إلى تحولات جذرية محتملة في عقائد وفلسفات القتال الجوي في المستقبل، فالقدرة على إطلاق وتشغيل أسراب ضخمة من المسيرات الشبكية من منصة جوية موحدة تمنح تفوقاً عملياتياً كبيراً، وتطرح في الوقت ذاته تحديات غير مسبوقة لأنظمة الدفاع الجوي التقليدية التي قد تجد صعوبة في التعامل مع هذا النوع من التهديدات المعقدة والمتشعبة، فضلاً عن الجوانب العسكرية يمكن أن تمتد التطبيقات المحتملة لمثل هذه المنصة إلى مجالات مدنية حيوية على سبيل المثال دعم عمليات البحث والإنقاذ واسعة النطاق خلال الكوارث الطبيعية أو تعزيز قدرات مراقبة البيئة والموارد الطبيعية بكفاءة عالية.

خاتمة:
في المحصلة يُعدّ التقدم المتسارع الذي تشهده صناعة الطائرات الحربية الصينية وخصوصاً مع الكشف عن مفهوم ثوري كحاملة الطائرات المسيرة “جيو تيان” برهاناً ساطعاً على الإرادة السياسية والطموح الإستراتيجي للصين نحو تحديث شامل لقواتها المسلحة وترسيخ مكانتها كقوة فاعلة ومؤثرة على الساحة الدولية، بالرغم من أن الغموض لا يزال يكتنف العديد من التفاصيل التشغيلية والقدرات النهائية لمنصة “جيو تيان” إلا أن مجرد الإعلان عن هذا المشروع الجريء يضع الصين دون أدنى شك في مصاف الدول الرائدة عالمياً في مجال ابتكار وتطوير الأنظمة الجوية غير المأهولة، وهذا لا يثير تساؤلات عميقة حول مستقبل أنماط الحروب والتوازن الإستراتيجي العالمي فحسب بل يستدعي أيضاً إعادة تقييم شاملة للمفاهيم الدفاعية السائدة، إن “جيو تيان” تتجاوز كونها مجرد إضافة جديدة إلى الترسانة الجوية فهي تجسيد حي للوثبة التكنولوجية والعسكرية التي تحققها الصين، ونذير بتحولات إستراتيجية قد تعيد تشكيل معالم التفوق الجوي في القرن الحادي والعشرين، حيث الأفكار المبتكرة والقدرات غير التقليدية هي التي سترسم ملامح المستقبل بوضوح.
				


