
العميد م. ناجي ملاعب
في ظل إعلان وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل، وتمهيد الطريق لآلية جديدة تتبع القرار 1701، تبرز الضرورة لمناقشة الأحداث العسكرية الأخيرة التي شارك فيها طرف لبناني بعيدًا عن الدولة. هذا الحديث يعد خطوة مهمة لفهم المستقبل وكيفية الاستعداد على جميع الأصعدة، خاصة مع وجود عدو ما زال يحتل أراض لبنانية ويتفاخر بتغيير خريطة المنطقة وفقًا لرؤيته.
أهدف من خلال دعوة لمراجعة ما حدث إلى إلقاء الضوء على كيفية تحضيرات إسرائيل في مجالات الاستخبارات، واستغلال الفضاء السيبراني والتقدم التكنولوجي خلال العمليات العسكرية، ورصد ما تم استخدامه ضد لبنان.
التقدم العسكري التكنولوجي الإسرائيلي – مجزرة البيجر كحالة دراسية
يتحدث الكثيرون عن الاختراقات الأمنية التي تسهم في نجاح العمليات الإسرائيلية، والتي قد انطلقت من إيران. إسرائيل تنفذ عمليات مستمرة هناك، منذ بدايات الثورة الإسلامية، مما يعكس عمق علاقاتها الاستخباراتية حتى خلال عهد الشاه.
تعتبر مجزرة البيجر المثال الأبرز على نجاح إسرائيل، حيث تزامنت مع عمليات الاغتيال في غزة ولبنان، نتيجة لتفوق التكنولوجيا العسكرية لدى إسرائيل وعدم الوعي من قِبل قوى المقاومة الإسلامية لكيفية التعامل معها.
في هذا السياق، يُشير الباحث السوري نزار سلوم إلى أن قرارات تنفيذ مجزرة البيجر تستند إلى مصدرين أساسيين: الديني والتكنولوجي، حيث يستند الأول إلى تعاليم واضحة في التوراة والثاني على تقدم تكنولوجيا “هايتك” المستخدمة في الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية.
هل استطاعت إسرائيل اختراق حصون حزب الله الأسطورية عبر التعاون مع إيران؟ مجزرة البيجر تمثل رسائل واضحة لحروب المستقبل، مدعومة بالتقدم المعرفي المعاصر الذي يتحكم فيه “آلهة التكنولوجيا”. هذه المجزرة أصبحت رمزًا سياسيًا ودينيًا للصراعات المستمرة، مُخلفةً خسائر فادحة في صفوف حزب الله ومناصريه.
استراتيجية العقل القيادي الإسرائيلي
بدأت إسرائيل اعتبارًا من 8 أكتوبر 2023، بعمليات تُحول غزة إلى غير قابل للحياة، مع استخدام نفس الأساليب في مناطق جنوب لبنان. تتابع القوات الإسرائيلية السكان، مستهدفةً التجمعات السكانية، وتقوم بتشريد من تبقى وتدمير البنية التحتية بالكامل، بما في ذلك المدارس والمستشفيات وأماكن العبادة.
الخطير في هذه السياسة الحالية هو تدمير المعالم التاريخية التي تشكل هوية المدن ومحو آثار الحضارات القديمة، مما يُعيد هذه الأماكن إلى عصور الفناء.
ترتكب الدولة العرقية ما يعد بمثابة جرائم ضد الإنسانية في حق المناطق المحتلة، مما يتطلب تسليط الضوء على النداءات للتحقيق والمحاسبة.
في خضم الأزمات العالمية، يتساءل الكثيرون عن كيفية اقتداء بعض الدول بتجارب الماضي، مثل تعامل الحلفاء مع ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. مع تزايد دلائل هزيمة ألمانيا العسكرية، بدأت دول الحلفاء تتداول حول مصيرها في الفترة التي تلي الحرب. كان هدفهم يتجاوز مجرد الهزيمة العسكرية ليشمل تحطيم الهوية التاريخية والسياسية لألمانيا. لقد كان هناك إجماع بين قادة الحلفاء على الحاجة إلى هزيمة ألمانيا في جوهر وجودها ومعناها.
منذ بداية تصعيدها، قامت إسرائيل بالتعامل مع الانتقادات الخارجية لأفعالها في غزة بعودة إلى أحداث الحرب العالمية الثانية لتبرير تصرفاتها. عندما طُرحت قضية الخسائر بين المدنيين، جاء رد نفتالي بينيت، رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، مستهجناً: “هل تسألني بجدية عن المدنيين الفلسطينيين؟ ما مشكلتك؟ نحن نقاتل النازيين!”
علاوة على ذلك، لم يتردد بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الحالي، في استحضار ذكريات الدمار الذي حل بمدينة دريسدن أثناء الحرب العالمية الثانية. حتى أن أحد وزرائه أبدى فكرة إلقاء سلاح نووي على غزة، على الرغم من تلقيه توبيخاً سريعاً.
تجاوزت إسرائيل في هجومها الحالي ما يمكن أن يتسبب فيه الإبادة الجماعية، وقد وجّه قادتها مراراً تهديدات بأنهم “سيرجعون غزّة ولبنان إلى العصر الحجري”. تتبنى إسرائيل منهجية تقترب من “الحل النهائي”، مستبدلةً عنوان كتاب يتعلق بألمانيا بـ “فلسطين يجب أن تهلك” و”لبنان يجب أن يهلك”. تسعى جاهدة لإنتاج معاناة تفوق الوصف، باستخدام تدمير المدن والقرى كوسيلة لمحاولة تآكل ذاكرة الشعب.
تأكيداً على هذه السياسة، تبرز إسرائيل كل أشكال الألم مما يستهدف التجربة الإنسانية للفلسطينيين. تسعى لإذلال الذاكرة الجماعية والهوية الفلسطينية، في محاولة لإخراج شعبنا من وعيه ومعرفته بنفسه وتاريخه.
ثمن كبير لعدم الاكتراث للهايتك العسكري الإسرائيلي –
يتواجد وادي السيليكون الإسرائيلي، الذي يمتد من حيفا إلى تل أبيب وصولاً إلى القدس، كامتدادٍ لنظيره الأمريكي الشهير. يمثل هذا الوادي مركزاً لتكنولوجيا متطورة، إذ بلغ صافي العائدات عام 2023 حوالي 74 مليار دولار، ممثلاً خمس اقتصاد إسرائيل. شركات تكنولوجيا عالمية مثل IBM وAMAZON وMICROSOFT وGOOGLE وFACEBOOK موجودة فيه، إضافة إلى أكثر من 300 شركة متعددة الجنسيات.
تلك الجمعيات والمنظمات اليهودية تعمل بلا كلل في سبيل تعزيز مشروعهم الصهيوني، وكانت سباقة في الاستثمار في “العلوم المركزية”. لذا، بادرت إسرائيل تحت قيادة دافيد بن غوريون إلى تأسيس برنامجها النووي، ليتمكنوا من الحصول على القنبلة النووية خلال سنوات قليلة، بدعم من علماء يهود مثل أوبنهايمر. الاهتمام الغربي بهذا التفوق الإسرائيلي على الدول المجاورة كان واضحاً، وأكدت فرنسا ذلك من خلال تزويد إسرائيل بمفاعل ديمونا في عام 1956.
في ذات الوقت، تراقب إسرائيل بشكل مستمر الدول المجاورة وتبقي تطوراتها العلمية تحت scrutiny شديد. من أمثلة ذلك، ضرب مفاعل تموز العراقي عام 1981، إلى جانب الاستيلاء على الأرشيف النووي الإيراني، واغتيال العديد من العلماء في المنطقة.
إجمالاً، يمثل وادي السيليكون الإسرائيلي جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية استبدال المعرفة والتفوق العلمي في المنطقة وضمان عدم الاقتراب من تلك العلوم من قبل الجيران.
تطلق “التكنولوجيا العالية” تحديات جديدة، حيث تحاول الدول المجاورة لإسرائيل التكيف مع “سيولة المعلومات” المتاحة. لكن رغم كل تلك المحاولات، تظل هذه البلدان عالقة في خانة الاستهلاك بدون القدرة على الابتكار والتحول إلى مراكز صناعية حقيقية.
العصر الرقمي: جنة أم فخ؟
في مقال مثير نشر في “نيويورك تايمز” بتاريخ 23 مارس 2023، تم تناول مفهوم “التحكم عن بعد” الذي يعيشه الناس اليوم. تم تحديد أن “العصر الرقمي” يتميز بسرعته الهائلة، ولكن من يتخلف عنه سيواجه الصعوبات. احتفلنا بالخدمات الرقمية المجانية، لندرك لاحقاً أن الشركات الكبرى التي تقدم هذه الخدمات تعتبرنا مجرد سلعة.
بدأنا نعتقد أننا نبحث في غوغل، لكن الحقيقة هي أن غوغل هو من يبحث عنا. استخدمنا وسائل التواصل الاجتماعي للتواصل، لكننا اكتشفنا أن هذه المنصات تستخدمنا بدلاً من ذلك. كانت لدينا أسئلة قليلة حول أسباب وجود سياسات الخصوصية، لكننا الآن نفهم أن هذه السياسات ليست سوى أدوات لمراقبتنا.
اليوم، تعكس مجتمعاتنا فكرة أن الثورة الرقمية جلبت “السيولة” إلى المعلومات، مما يفتح الأبواب لـ”العلوم المركزية” ويعزز الفرص لدول العالم. ومع ذلك، فإن صعود رأسمالية المراقبة على مدى العقدين الماضيين لم يتعرض للمحاسبة. وكما في الماضي عندما أطلق الأسلاف على السيارة اسم «عربة بدون أحصنة»، فقد اعتقدنا أن منصات الإنترنت مجرد “لوحات إعلانات” للناس.
تتأسس كل هذه التصورات على فكرة شائعة ولكن خاطئة: فكرة أن الخصوصية خاصة. تخيلنا أننا نستطيع التحكم في خصوصيتنا، ولكن التطورات السريعة في أنظمة التعرف على الوجه تكشف عن عواقب هذا الاختيار. يطالب رأسماليو المراقبة بحق استخدام وجوهنا في الشوارع أو عبر منصات التواصل الاجتماعي.
ومن المثير للاهتمام، أن قاعدة بيانات مايكروسوفت التي تسجل 10 ملايين صورة تم جمعها من الإنترنت دون موافقة أصحابها، تُستخدم بشكل واسع في شركات مثل آي بي إم وعبر وكالات حكومية في العديد من الدول، مما يعكس حجم المراقبة الممنهجة.
خصوصيتنا ليست خاصة، فمدى فعالية أنظمة المراقبة يعتمد على المعلومات التي نتخلى عنها أو تُسرق منا في الخفاء.
الوعي الرقمي وضرورة الثبات
كان يُعتقد أن القرن الحالي هو العصر الذهبي للديمقراطية، لكننا ندخل الآن العقد الثالث الذي يتميز بعدم المساواة الاجتماعية و”عدم المساواة المعرفية”. يشير هذا المصطلح إلى الفجوات الشديدة في المعرفة والقوة التي تتزايد بمرور الوقت. عمالقة التكنولوجيا يهيمنون على المعلومات ويستفيدون من هذا التفاوت لصالحهم، مما يهدد الخصوصية الفردية ويضعف الديمقراطية.
انشغلنا بالأوهام حول الخصوصية العميقة وأغفلنا هذا الانقلاب الصامت الذي يغير ملامح مجتمعنا.
يكشف الباحث السوري نزار سلوم في تحليله حول الصراع مع إسرائيل تساؤلات مهمة: هل دفعتنا “سيولة المعلومات” للاعتقاد بأننا حققنا تقدمًا كبيرًا، في حين أننا لم ندرك التغيرات السريعة والاتجاهات التي تحدث خلف “أسوار الحماية”؟ هل نعتقد حقًا أننا أصبحنا في موقف متساوي مع إسرائيل من حيث أدوات الصراع مثل “الصواريخ والطائرات المسيرة”؟ لا شك أن هناك وعيًا ناقصًا بتفوق إسرائيل التكنولوجي وتأثيره العميق.
بالطبع، الصورة ليست بهذه البساطة، فإن “التكنولوجيا العالية” تعد العامل الحاسم في استراتيجيات الهيمنة والتفوق. لا يقتصر الأمر على طبيعتها فقط، بل يشمل أيضًا التسارع السريع في تطورها. كما صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سياق هذا الموضوع: “من يمتلك الذكاء الاصطناعي سيسيطر على العالم.” هذا يعكس حقيقة أن التقدم التكنولوجي يلعب دورًا محوريًا في تشكيل معادلات القوى.
وبذلك، يتطلب الأمر منا تقييمًا دقيقًا للواقع والموازين القائمة في الصراع، وإدراك كيف يمكن أن تؤثر التقنيات الحديثة في تحديد مصير الأفراد والدول. إن البقاء على اطلاع على التوجهات الجديدة في التكنولوجيا والتسلح يعكس أهمية الاستعداد والتكيف في مواجهة التحديات القادمة.





