
العقيد الركن م ظافر مراد
في الوقت الراهن، يشهد العالم تصاعداً في الحروب الهجينة عبر مسارح عمليات متعددة، مستفيدة من أساليب وقدرات متنوعة تتجاوز المفاهيم التقليدية. تتضمن هذه الحروب كل المجالات وعناصر القوة الوطنية، ممزوجةً بالقوتين الصلبة والناعمة – أو ما يعرف بالقوة الذكية. تشمل مواجهات اليوم الفضاء الإلكتروني، وسائل التواصل الاجتماعي، وآليات الإعلام التي تؤثر في الجماهير وصانعي القرارات. رغم اختلاف طبيعة المواجهات وأبعادها المادية من منطقة إلى أخرى، إلا أن الصراع الرئيسي يدور بين “قوى الغرب”، بقيادة الولايات المتحدة، و“قوى الشرق”، تحت قيادة روسيا والصين. تتمتع قوى الغرب بثقافتها الأيديولوجية وعقائدها الخاصة، بينما تنفتح قوى الشرق على مزيج معقد من الأفكار والعقائد والمبادئ التي تعد بمثابة دفاع ضد الهجمات الغربية على ثقافتها ومصالحها.
تتعدى تلك المواجهات الأبعاد التقليدية الثلاثة (البر، البحر، والجو)، لتشمل مؤخراً أبعاداً جديدة مثل الفضاء والبعد السيبراني، بالإضافة إلى عمق “تحت سطح البحر” الذي يحتوي على ثروات غنية ومنشآت حساسة يصعب مراقبتها. هذه الأبعاد تُمثل تحديات جديدة تهدد أمن الدول.
تعتبر الغواصات الأداة الرئيسية المستخدمة في العمليات “تحت سطح البحر”، حيث تطلق الطوربيدات نحو الأهداف المغمورة، بالإضافة إلى السفن والطائرات التي تُلقي القنابل والذخائر. تم تطوير غواصات صغيرة مأهولة وغير مأهولة مؤخراً لأداء عمليات خاصة في الأعماق. لا يمكن إغفال دور وحدات الغوص الخاصة القادرة على تنفيذ مهام مماثلة في الأعماق المنخفضة.
تتنوع الأهداف المستهدفة في عمليات تحت السطح، وتشمل كابلات الإنترنت والكهرباء، وأنابيب النفط والغاز، إضافة إلى منشآت استخراج موارد الطاقة، ومعدات التنصت ونقل المعلومات العسكرية. تجسد عملية تفجير أنابيب “نورد ستريم” التي تنقل الغاز الروسي إلى أوروبا مثالاً خطيراً يهدد أمن الطاقة العالمية، حيث تعكس هذه العملية نموذجاً لصراع تحت السطح. ورغم التقارير المتضاربة حول تنفيذها، يبقى من الواضح أن مثل هذا العمل يتطلب مستوى عالٍ من التخطيط والدقة، مما يُشير إلى عمليات استخباراتية ذات تقنيات متقدمة.
تحتوي الأعماق البحرية على شبكة هائلة من كابلات الإنترنت الحيوية، التي تدعم 97% من الاتصالات الدولية في العصر الرقمي. تُعد هذه الكابلات ذات البنية المعقدة عنصراً أساسياً في النشاطات الوطنية والدولية، حيث يعطل أي تحقق ضار بها الخدمات المدنية والعسكرية، بالإضافة إلى تبادل المعلومات والمعاملات المالية. تشير التقديرات إلى أن حوالي 10 تريليون دولار من المعاملات المالية تتم سنوياً عبر أكثر من 950 ألف كيلومتر من الكابلات الضوئية البحرية.
تشير التوقعات إلى أن العالم قد يواجه فوضى كبيرة تترتب عليها خسائر فادحة وفقدان بيانات، مما قد يؤدي إلى كوارث وضحايا بأعداد كبيرة. وفقًا للخبراء، يتشابه هذا السيناريو المخيف مع التهديدات التي تثيرها الحروب النووية، مما يشكل خطراً وجودياً على نمط حياتنا. رغم أن الكابلات البحرية تمتاز بقدرتها على الاعتناء بنفسها ضد العوامل الطبيعية والحوادث البسيطة، إلا أنها تظل عرضة للهجمات المدبرة والتي تشمل التفجيرات. تُصنع هذه الكابلات من ألياف بصرية تتميز برقتها، مُحاطة بطبقات متعددة من البلاستيك والنحاس والفولاذ لتوفير الحماية اللازمة.
تاريخ الكابلات البحرية يمتد إلى خمسينيات القرن التاسع عشر، حيث أُسس الاتحاد الدولي للتلغراف (ITU) عام 1865، والذي يعرف حالياً بالاتحاد الدولي للاتصالات. هذا الاتحاد قد اتخذ خطوات عدة لحماية الكابلات البحرية، بما في ذلك اتفاقية 1884 التي تخص حماية كابلات التلغراف. ومع ذلك، لم تكن هناك توافقات بين الدول بشأن تدابير الحماية خلال فترات الحروب. في عام 1982، تم إقرار اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، مكملةً لاتفاقية الاتحاد الدولي بشأن حماية حرية الشركات في مد الكابلات وخطوط الأنابيب في المياه الدولية. لكن، لم توقع الولايات المتحدة على هذه الاتفاقية. حيث تتعارض بعض القوانين الوطنية في كل من الولايات المتحدة والصين مع بنودها. إضافةً إلى ذلك، تُعقد الشبكة المتنوعة من الفاعلين المشاركين في الكابلات البحرية جهود التنسيق التي يبذلها الاتحاد الدولي للاتصالات. ويؤدي غياب بيئة تنظيمية فعالة إلى زيادة المخاطر المتعلقة بسلامة الاتصالات الدولية، خاصة في المناطق الجغرافية الاستراتيجية مثل البحر الأحمر وبحر الصين الجنوبي.
في تقرير مُنشر بواسطة موقع “Global Sentinel” في أكتوبر 2024، أشار الأدميرال السير توني رادكين، رئيس الأركان العامة في الجيش البريطاني، إلى أن روسيا تُعتبر التهديد الرئيسي الذي يهدد هذه الكابلات الحيوية. حيث شهد النشاط العسكري للغواصات الروسية زيادة ملحوظة خلال العقدين الماضيين، مما يبرز تطوير روسيا لقدراتها على استهداف هذه الكابلات. وأكد أنه سيتم التعامل بجدية مع أي تدخل، وطرح سؤال حول إمكانية اعتبار تدمير الكابلات عملاً من أعمال الحرب، فأجاب “ربما نعم”.
لا يُستثنى الاستثمار في كابلات الاتصالات البحرية من صراع القوى العظمى بين الولايات المتحدة والصين. إذ ضخّت شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى مثل جوجل ومايكروسوفت وميتا استثمارات ضخمة في هذا القطاع، حيث بلغ إجمالي استثماراتها من عام 2016 إلى 2022 حوالي 2 مليار دولار، ما يُمثل 15٪ من الاستثمارات العالمية. ومن المتوقع أن ترتفع هذه الأرقام بمقدار 3.9 مليار دولار في السنوات الثلاث القادمة، مما سيجعلها تشكل 35٪ من الاستثمارات العالمية في هذا المجال. ينسجم هذا مع التنافس الأميركي-الصيني للهيمنة على كابلات الاتصالات، حيث تُعتبر السيطرة على وسائل نقل المعلومات السريعة محوراً أساسياً للأمن العسكري والتجاري في النظام العالمي الحديث، الذي يشهد تنافساً على بناء نظام عالمي متعدد الأقطاب. وهذا يُشعل دافع بكين لإطلاق طريق الحرير الرقمي في عام 2015 والذي تضمن استثمارات رئيسية في الكابلات.
تسعى الصين جاهدة لترسيخ هيمنتها في المجال الرقمي من خلال مبادرات جديدة تهدف إلى تطوير قدراتها واختراق السيطرة الغربية. تشكل هذه الجهود جزءًا أساسيًا من حروب الكابلات البحرية التي تتصاعد بمرور الزمن.
في عام 2019، تمتعت شركة هواوي مارين بحصة سوقية تقدر بحوالي 15% من سوق الكابلات البحرية العالمية، لكن العقوبات الأمريكية الصارمة عطلت نموها. بعد ذلك، استحوذت شركات الكابلات البحرية الصينية على شركة هواوي مارين، ومنذ ذلك الحين، تعمل بجد للحصول على عقود كبيرة في هذا القطاع. ردًا على الأنشطة الصينية، قامت الولايات المتحدة بفرض قيود صارمة على الشركات الصينية لتحقيق أهدافها. تعرضت شركاء الاتصالات لضغوط بعدم التعاون مع العروض الصينية، حيث ألغى البنك الدولي في عام 2021 مشروع كابل بحري مقترح كان سيوصل بين عدة دول جزرية في المحيط الهادئ، وذلك لتجنب منح العقد للشركة الصينية.
علاوة على ذلك، في آذار 2023، أقر الكونجرس الأمريكي قانونًا يهدف إلى تعزيز السيطرة على الكابلات البحرية وضمان التفوق الأمريكي في هذا المجال. ومع ذلك، تتواصل الشركات الصينية في بناء كابلات دولية تعزز من تواصل بكين مع دول حليفة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. وتشير التقارير إلى أن السفن الصينية تشارك في صيانة معقدة للألياف الضوئية، حتى بالنسبة لتلك التي تمتلكها الولايات المتحدة، مما يزيد من تعقيد جهود واشنطن في الحد من تأثير الشركات الصينية في البنية التحتية العالمية للإنترنت.
تعتبر الكابلات البحرية والبنية التحتية المرتبطة بها هدفًا حيويًا وعرضة للخطر في أي صراع مستقبلي. هذا الضعف ناتج عن المنافسة الدولية القاسية للسيطرة على اتصالات العالم، خصوصًا في أوقات الصراعات. وعلى الرغم من الطبيعة المادية العميقة تحت السطح، فإن رصد الكابلات البحرية ومراقبتها يمثل تحديًا هائلًا نظرًا للأعماق الكبيرة والمياه الواسعة التي تغطيها، مما يجعل هذه الأصول نقاط ضعف حرجة تثير قلقًا كبيرًا في صراعات المنطقة الرمادية.
شهدنا في السنوات الأخيرة ارتفاعًا ملحوظًا في الهجمات المتعمدة والغير متعمدة على الكابلات البحرية. على سبيل المثال، تم قطع عدة كابلات قبالة ساحل جنوب فرنسا في نيسان وتشرين الأول 2022، مما أثر على الاتصالات بين آسيا وأوروبا والولايات المتحدة. وفي شباط 2023، تسببت السفن الصينية في قطع كابلات بحرية تابعة لجزر ماتسو التايوانية، مما أدى إلى تباطؤ الإنترنت بشكل كبير. وفي شباط 2024، تم الإبلاغ عن تباطؤ مفاجئ في اتصالات الإنترنت في أجزاء مختلفة من آسيا وأفريقيا وأوروبا نتيجة للأضرار التي لحقت بثلاثة كابلات بحرية في البحر الأحمر.
البيئة الغامضة التي تحيط بالعمل تحت سطح المحيطات جعلت هذا المجال هدفًا للإستراتيجيات الهجينة. الخطر يتزايد بسبب سهولة استهداف البنية التحتية من قبل دول صغيرة أو منظمات غير حكومية، ما يجعل من الصعب تحديد الجناة وراء الأعمال التخريبية. الإشراف على الكابلات البحرية يعد أمرًا شبه مستحيل، حيث تمتد هذه الكابلات بطول كافٍ ليغطي ثلاثين مرة العالم إذا تم وضعها بشكل مستقيم، وتتواجد بعض هذه الكابلات على أعماق تصل إلى 8000 متر، مما يمثل تحديًا كبيرًا للعمليات هناك. لا شك أن المستقبل سيشهد مزيدًا من الاستهدافات تحت السطح، وستحظى هذه القضية باهتمام كبير من المنظمات العسكرية في مجال التخطيط والتنفيذ وبناء الحماية.





