العقيد الركن م. ظافر مرادمقالات رأي

ثلاثة عمالقة: كيف تتربع قوة عسكرية واقتصادية نووية على عرش العالم؟

العقيد الركن م. ظافر مراد

تتردد كلمة “القوى العظمى” في مجالات الأمن والاقتصاد والسياسة والعسكرية، ومن المثير للاهتمام أنه منذ انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الثنائية القطبية، وعلى الرغم من هيمنة الولايات المتحدة على النظام العالمي، المعروفة بالأحادية القطبية، فإن ثلاث قوى عالمية لا تزال تحتفظ بمكانتها في صدارة “القوى العُظمى”. لا تستطيع أي دولة أخرى تحدي هذا الترتيب أو حتی الاقتراب منه، ولا يبدو أن هناك تغييرات متوقعة في المستقبل القريب. تأتي هذه القوى في الترتيب التالي: الولايات المتحدة الأميركية في المركز الأول، روسيا الاتحادية في المركز الثاني، وجمهورية الصين الشعبية في المركز الثالث.

تستمر هذه البلدان في الحفاظ على هذا الترتيب وفقًا لمؤشرات القوة العالمية في مراكز الأبحاث الموثوقة. ترجع الأسباب إلى امتلاكها لمعايير “القوى العُظمى” المطلوبة، ولعل أبرزها:

  1. القوة العسكرية المتفوقة: تُعد منصة “Global Fire Power” من الأبرز في تصنيف القوة العالمية، مستندةً على العديد من المعايير العلميه. تعزز هذه المنصة منذ زمنٍ طويل ترتيب الولايات المتحدة أولاً، تليها روسيا والصين، حيث لا تقتصر معايير القوة العسكرية على امتلاك الأسلحة المتفوقة فحسب، بل تشمل أيضًا الاستقلالية في التصنيع وعدم الاعتماد على دول أخرى لتوفير المعدات العسكرية اللازمة، وذلك عبر جميع مجالات التصنيع سواء البرية أو الجوية أو البحرية أو الفضائية. يعد عدم القدرة على تأمين الاستقلالية في هذه المجالات مؤشرًا على تصنيف الدول كقوى إقليمية، مما يبقيها في مرتبة صف الثاني.
  • امتلاك قدرات الردع النووي مع إمكانية الرد بعد التعرض لضربة نووية أولى، هو ضمان للبقاء في حالة الحرب النووية. يتطلب هذا الأمر القدرة على استيعاب عدد كبير من الرؤوس النووية، بالإضافة إلى نشر منظومات الأسلحة النووية وطريقة إطلاقها من عدة مجالات كالبر والبحر والجو والفضاء. وفقًا لموقع “Statista”، تحتل روسيا المرتبة الأولى بعدد 5580 رأس نووي، وفي المرتبة الثانية تأتي الولايات المتحدة الأمريكية بـ5044 رأس، بينما تتمركز الصين في المرتبة الثالثة بـ500 رأس، مع تزايد سريع في عدد الرؤوس النووية الصينية. ويدل التفوق الروسي في مجال الصواريخ فرط الصوتية، والتي تستطيع سرعتها تجاوز 20 ماخ، على قدراتها القتالية القوية التي يصعب على أنظمة الدفاع الجوي التصدي لها.
  • القوة الاقتصادية والموارد الأساسية هما من العناصر الأساسية التي تؤمن التفوق العسكري للدولة وتساهم في تعزيز الرفاهية والتقدم العلمي. وفقاً لبيانات “Statista” لعام 2024، تأتي الولايات المتحدة الأمريكية في المقدمة بترتيب الناتج المحلي الإجمالي بـ29.167 تريليون دولار، تليها الصين بـ18.273 تريليون دولار، ثم روسيا في المرتبة الحادية عشر بـ2.376 تريليون دولار. بينما تتمتع روسيا بموارد طبيعية هائلة، خاصة في مجال استكشاف النفط والغاز حيث تعتبر الأولى عالميًا فيهما. حسب تقديرات “الطاقة”، تمتلك روسيا احتياطيات نفطية مؤكدة تصل إلى 19.1 مليار طن واحتياطيات غاز تصل إلى 43.9 تريليون متر مكعب، مع وجود المزيد من الخزانات الطبيعية غير المكتشفة. وعلى الرغم من تفوق بعض الدول الأوروبية اقتصاديًا، إلا أنها تعاني من نقص في الموارد الطبيعية اللازمة التي تجعلها تعتمد على الاستيراد.
  • العمق الاستراتيجي يعتبر عاملاً حاسماً في جعل الدولة “عظمى”. تملك كل من الولايات المتحدة وروسيا والصين عمقًا استراتيجيًا من حيث المساحة والموقع، ما يجعلها أقل عرضة للاستهداف. لذلك، يُعتبر عالم الجغرافيا البريطاني “هالفورد جون ماكندر” من أوائل من أفادوا في هذا المجال من خلال تقديم نظرية قلب الأرض. وقد ناقش ماكيندر أهمية موقع شرق أوروبا، حيث أكد أن من يتحكم فيه يمكنه السيطرة على العالم. الصراع القائم حاليًا بين أوكرانيا وروسيا هو تجسيد لهذه النظرية، حيث تسعى روسيا إلى حماية نطاقها الإقليمي والسيطرة على البحر الأسود وشرق أوكرانيا ذات الموارد الاستراتيجية. ومع أن الولايات المتحدة تظل القوة البحرية الأولى، إلا أنها تفتقر إلى العمق البري القريب الذي تحتاج إليه.

تُعتبر الصراعات على المناطق الإستراتيجية أحد المحاور الأساسية للتنافس الدولي. تسعى القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة، إلى نشر قواتها في مختلف أرجاء العالم من خلال أكثر من 750 قاعدة عسكرية خارج أراضيها. في المقابل، تعمل الصين على تعزيز سيطرتها على بحر الصين الجنوبي، وتظهر معارضتها القوية لاستقلال تايوان، حيث تمثل السيطرة عليها مرحلة حاسمة لتأكيد نفوذها الجيوبوليتيكي في منطقة الإندو/باسيفيك. هذه المشهد يبرز سعي الصين لأن تصبح أكثر قوة في مواجهتها للولايات المتحدة وحلفائها.

  • القدرة والإرادة السياسية لمواجهة المخاطر وشن الحروب الشاملة: قد يبدو هذا العنصر غير تقليدي، إلا أنه يعد أحد العوامل الأساسية التي تعزز قدرة الدولة على الردع. فلا يُعتبر بلد قادرًا على تحقيق التهديدات ضد أعدائه إذا كانت لديه مخاوف من خوض الحروب. في هذا المجال، تتصدر الولايات المتحدة قائمة الدول التي شاركت في حروب متعددة. تليها روسيا، التي خاضت صراعات في أماكن مثل الشيشان وأفغانستان، ولا تزال تواجه تحديات كبيرة في أوكرانيا. بينما تتمثل استراتيجية الصين في التركيز على الاقتصاد والتجارة، إلا أنها تُظهر استعدادًا للحرب إذا قررت تايوان الإستقلال. تظهر المناورات العسكرية الصينية حول تايوان مدى جدية القيادة الصينية في الحفاظ على سيادتها ومصالحها الوطنية.
  • التاريخ والحضارة والسمعة العالمية: رغم أن هذا المعيار قد لا يظهر بصورة واضحة في المواجهات العسكرية، إلا أنه يلعب دورًا حيويًا في القوة الناعمة وتعزيز التحالفات. تتفوق الولايات المتحدة على المستوى الإعلامي والدبلوماسي مع عضويتها في حلف الناتو وتحالف كواد الرباعي. من ناحية أخرى، تمتلك روسيا والصين تاريخًا حضاريًا جيدًا، وهما من الأعضاء المؤسسين لمجموعة البريكس، التي تهدف إلى تقليل الهيمنة الأمريكية في المجالين الاقتصادي والأمني.

في سياق المنافسة على الهيمنة، وسباق الاستحواذ على الموارد الطبيعية، لا يبدو أن هناك تغييرات جذرية في ترتيب القوى. ستبقى الولايات المتحدة في المقدمة تليها روسيا والصين، بينما ستبقى القوى الأخرى في مواقع أقل تأثيرًا رغم تطورها الاقتصادي والتكنولوجي. يعتمد تحديد القوة في الساحة الدولية على العوامل العسكرية والإرادية، والاستعداد لتحمل المخاطر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى