
العميد م. ناجي ملاعب – باحث في الشؤون الأمنية والإستراتيجية
تعتبر خيرسون خزان المياه الرئيسي لشبه جزيرة القرم، وهي المنطقة التي سيطرت عليها روسيا منذ عام 2014. وقد كانت خيرسون من الأهداف الأولى للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. مؤخرًا، نفذ الجيش الروسي عملية إخلاء للمدنيين وقرر الانسحاب من المدينة، حيث تم تبرير هذه الخطوة من قبل القيادة الروسية بوجود المدينة على الضفة الغربية لنهر الدانيبر، مما جعل بناء جسور بديلة للجسرين المدمرين بواسطة القوات الأوكرانية أمرًا صعبًا.
هذا الانسحاب التكتيكي جاء بعد إعلان القيادة الروسية ضم مقاطعة خيرسون إلى الاتحاد الروسي، وقد تم بدون خسائر تذكر. الغريب أن الجيش الأوكراني دخل المدينة، حيث قام الرئيس زيلنسكي برفع العلم الأوكراني في الساحة دون أي استهداف عسكري من الجهات الروسية.
يدور تساؤل حول ما إذا كانت هناك “تفاهمات” قد حدثت في اللقاءات الأخيرة في أنقرة بين الروس والأميركيين. وهل كانت زيارة جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي إلى روسيا، تمهيدًا لأكثر من مجرد “تفاهمات”، أم أن “الجنرال” شتاء قد أجبر المحاربين على أخذ استراحة بهدف إعادة تجهيز الترسانة العسكرية لفريقي النزاع، والاستعداد لمتابعة العمليات مع قدوم الربيع؟
توقع البروفيسور Hein Goemans، أستاذ العلوم السياسية في جامعة روتشستر، صراعًا طويلا في أوكرانيا. جاء توقعه بناءً على المتغيرات الثلاثة لنظرية إنهاء الحروب: المعلومات، الالتزام الموثوق، والسياسة الداخلية. يشير إلى أن تلك المتغيرات لم تُحل بعد، ولا يزال كلا الجانبين يؤمنان بإمكانية الفوز ويتزايد عدم ثقتهما تجاه بعضهما البعض.
فيما يتعلق بالمعلومات، قد يكون أحد الطرفين أو كليهما قد بالغ في تقدير قوتهما مقارنة بالخصم. هذا الوضع يحمل أسباب كثيرة لوجود عدم تناسق معلوماتي، إذ كانت القدرات القتالية خارج نطاق السرية. والسؤال الأفضل هنا هو، كيف يمكن تحديد القوة الحقيقية سوى من خلال القتال نفسه؟
أما عن الالتزام الموثوق، فإن فقدان الثقة بين الأطراف قد يؤدي إلى إطالة الصراعات. حيث قد يعاني أحد الطرفين أو كلاهما من عدم القدرة على الوثوق بالتحقق من أي اتفاق سلام. هذا ما عانت منه أوروبا اليوم، حيث تأخرت ألمانيا وفرنسا – وهما البلدين اللذين قادا اتفاقية مينسك – في الإشراف على استفتاء عام 2015 حول مصير منطقتين من الدونباس. فهنا يتضح دور آلية إنفاذ العقود في النظام الدولي، التي تفتقر إلى محكمة للتحكيم يمكن للطرف المتضرر الاستئناف أمامها.
فيما يتعلق بالسياسة الداخلية، فإن الرئيس الروسي يمثل الزعيم الذي حذر منه غويمانس، حيث لا يملك سيطرة كاملة حتى مع وجود أجهزة قمع قوية، وما زال يطلق على الحرب “عملية عسكرية خاصة” لتجنب الاضطرابات الداخلية. وقد توقع غويمانس أنه إذا بدأ في الخسارة، سيتجه نحو استراتيجيات احتواء التصعيد بزيادة قوة المواجهات، حيث إن أي شيء أقل من النصر قد يعني نهايته.
أما بالنسبة لرايتر، مؤلف كتاب “كيف تنتهي الحروب”، فقد أشار إلى أن النزاع في أوكرانيا يُعتبر نموذجا تقليديا للحروب. فقد شهدت هذه الحرب القليل من الأنشطة السيبرانية، وتعتمد روسيا بشكل كبير على المدفعية والدروع والمشاة، مما يجعلها حربًا تعود إلى القرن العشرين.
تجسّد الأسلحة المتطورة، مع التدريب الكافي والكثير من الشجاعة، التحول الجذري في مجرى الأحداث. كما أن الأمور لم تتغير كما كان متوقعاً.
الدعم الغربي، سواء كان تدريباً أو تسليحاً، كان له دور بارز في تعزيز صمود الأوكرانيين ضد الغزو الروسي. فقامت القوات الأوكرانية بهجوم مضاد ناجح، مستعيدةً أراضي شاسعة في منطقة خاركيف. بينما أقدم بوتين، كما هو مُتوقع، على إعلان “تعبئة جزئية” للقوات، بالإضافة إلى إجراء “استفتاءات” متعجلة حول الانضمام إلى الاتحاد الروسي في المناطق المحتلة. أدت التعبئة الجزئية، التي تمت بطريقة فوضوية، إلى هروب عشرات الآلاف من الروس، مع تنامي الاحتجاجات في مختلف أنحاء البلاد. في الوقت نفسه، واصلت القوات الأوكرانية تقدمها في شرق البلاد، حيث تمكن الجيش الأوكراني من تدمير الجسرين الرئيسيين على نهر الدنيبر، ما أدى إلى قطع الإمدادات عن مدينة خيرسون، مما شكل ضغوطاً إضافية على القوات الروسية غرب النهر.
هذا القرار بالانسحاب من المدينة لم يكن مجرد نتاج للضغوط العسكرية، بل شكّل أيضاً تعزيزاً معنوياً للقيادة الأوكرانية.
هناك عاملان يعتبران من أبرز المؤثرات على سير الحرب: التعزيزات الروسية الجديدة، مهما كانت حالتها من التدريب والتجهيز، وبداية فصل الشتاء. وهذا ما قد يؤدي إلى وقف الحملة الأوكرانية ويمنح الروس فرصة للتنفس في الوقت الحالي.
قال غويمانس: “يعتقد الناس أن النهاية قريبة، لكن الحرب لا تسير دائماً كما نتمنى”. يعتقد أيضًا أنه بحلول الربيع، ستستأنف أوكرانيا هجومها، مما قد يعيد نفس الديناميكية والمخاطر السابقة إلى الساحة. “لكي تنتهي الحرب، يجب أن تتغير المطالب الأساسية لأحد الأطراف على الأقل”. هذه هي القاعدة الأساسية لإنهاء الصراع، ونعتقد أننا لم نصل بعد إلى النقطة التي تتغير فيها أهداف الحرب بشكل يكفي لإمكانية الوصول إلى اتفاق سلام.





