
العميد م. ناجي ملاعب
تعيش منطقة الشرق الأوسط حالياً ظروفاً تشبه الحرب الباردة، حيث يبرز الصراع بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة وإيران وأعوانها من جهة أخرى. يعود جذور التوتر الأمريكي- الإيراني إلى انهيار نظام الشاه في أعقاب الثورة الإسلامية عام 1979، لكن تصاعدت حدة المواجهة بعد غزو الولايات المتحدة للعراق وأفغانستان، مما وضع إيران في موقف هش بعد زوال نظامين عدوين لها: طالبان وصدام حسين. جراء ذلك، ازدادت مخاوف طهران من التهديدات الغربية، مما دفعها إلى إنشاء ودعم حركات تعارض العولمة والفكر الغربي وتؤيد المقاومة ضد إسرائيل؛ وفقاً لاستراتيجيات تخدم مصالحها الإقليمية والدولية.
ساهم وجود الشيعة في العراق ولبنان في تعزيز نفوذ إيران، حيث تم استخدامها كمنصات لمواجهة حلفاء الغرب. هذا التأثير ظل مستمراً في سوريا، حيث تدعم إيران منظمات عسكرية قيادتها تنتمي للحرس الثوري الإيراني، رغم التدخل الروسي. انعدام الاستقرار في الساحة الفلسطينية وتراجع دور العرب أعطى طهران فرصة لفتح قنواتها في الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، مما جعلها جزءاً أساسياً من القضية الفلسطينية، حيث أصبحت غزة ساحة جديدة للنزاع بالوكالة بينها وبين واشنطن. كما أن الطموحات النووية الإيرانية تشكل تحدياً للغرب وإسرائيل وبعض الدول العربية، مما يزيد من تعقيد الأمور في المنطقة.
تأخذ التوترات الطائفية بعداً جديداً؛ إذ يظهر البعد الشيعي- الفارسي كعامل إضافي للصراعات، مما يزيد من التعقيد ويجعل جبهات مثل لبنان والعراق وسوريا واليمن أكثر قابلية للاشتعال.
التدخلات الخارجية في لبنان والعراق تعكس الروابط القائمة بين الأزمات والصراعات الدولية، ولكن هناك أوجه تشابه أيضاً في الأنظمة السياسية وتراكيبها الداخلية، والتي تؤثر على الأوضاع العامة في المنطقة.
بعد انهيار حكم صدام حسين، أصبح مصطلح “اللبننة” يُستخدم مجدداً ليشير إلى الوضع في العراق. فما هي دلالات هذا المصطلح؟ وما هي أوجه التشابه بين العراق ولبنان؟ كيف يمكن للعراق أو أي دولة ذات تركيبة اجتماعية مشابهة أن تستفيد من التجربة اللبنانية؟ هل تعتبر هذه التجربة نموذجاً يحتذى أم هي مشكلة يُحذر منها؟
أولاً: مصطلح “اللبننة” وأبعاد التجربة اللبنانية:
البعد الأول يتعلق بالديمقراطية التوافقية التي اعتمدها لبنان منذ الاستقلال، حيث اعتبرت نموذجاً للتعايش السلمي بين جماعات متنوعة. هذا الأمر ساهم في حماية لبنان من التحول إلى دولة سلطوية مشابهة للعديد من الدول العربية.
أما البعد الثاني، فيشير إلى قابلية الانجرار إلى صراعات مسلحة وحروب أهلية، مما يسلط الضوء على المخاطر الكبرى التي قد تعاني منها الدول ذات التركيبة الاجتماعية المتنوعة.
تتجلى التحديات بين الجماعات عندما يتغلب الولاء للجماعة على الولاء للدولة. ويُلاحظ أن الحروب الأهلية التي شهدها لبنان والعراق كانت بمثابة دعم من جهات إقليمية ودولية لتحقيق مصالحها. إذ يمتلك كل طرف سياسي في العراق ولبنان حامياً إقليمياً أو دولياً يدعمه politically, financially, and militarily.
على الجانب الآخر، يؤكد البعد الثالث على أهمية بناء دولة ديمقراطية قوية تحتضن أبناءها وتضمن حقوقهم كشرط أساسي لنجاح أي توافق بين جماعات غير متجانسة، مما يشكل حصانة ضد التدخل الخارجي تحت ذريعة الدفاع عن الجماعات.
فما هي الصيغة التوافقية التي تبناها اللبنانيون في عام 1943؟ وكيف تم تعديلها في عام 1990 عبر اتفاق الطائف؟ وهل كانت تلك التعديلات فعلاً فاشلة في تحقيق الأهداف المنشودة؟
لا يمكننا اختزال عدم التجانس في المجتمع اللبناني إلى انقسام ديني بين اللبنانيين، حيث يتوزع كل دين على عدة طوائف ومذاهب مختلفة. بل إن عمق عدم التجانس يكمن في العقائد الدينية وأثرها على فهم الدولة والسلطة والنظام السياسي ومرجعية القوانين والدستور. هذا الاختلاف الجذري يسفر أيضاً عن تصورات متباينة تجاه الآخر. إذ أن الإسلام والمسيحية يتناولان علاقة الدين بالدولة من زوايا مختلفة، مما يجعل تطبيق العلمنة أو الديمقراطية العددية تحدياً في مجتمعات تضم مسلمين ومسيحيين.
تظهر التجارب أن فرصة نجاح العلمنة – سواء السياسية أو الاجتماعية – أو حتى شبه العلمنة تكون أكبر في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة في ظل وجود مؤسسة عسكرية تتمتع بمباركة دولية قادرة على فرضها بالقوة، مثلما حدث في تركيا خلال الحرب الباردة. كما أن بعض الأنظمة الديكتاتورية استخدمت شبه العلمنة كغطاء لتبرير حكم الأقلية، كما جرى في العراق وسوريا وليبيا.
في الواقع اللبناني، يتضح التحدي الأكبر المرتبط بمفهوم الدولة ونوعيتها والعوامل المؤثرة على حدودها. فهل يُراد بناء دولة مؤسساتية تحتوي مختلف الفئات الدينية والإثنية تحت مظلة المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات؟ أم أن الهدف هو إقامة دولة قومية محملة بمسؤوليات عاطفية ودينية داخل العالمين العربي والإسلامي؟ هذا السؤال يشكل المحور الأساسي للجدل حول هوية لبنان كدولة مستقلة قادرة على ممارسة سياساتها الداخلية والخارجية بعيداً عن تأثيرات الفصائل الطائفية.
كثيراً ما يُنتقد تركيبة لبنان التوافقية تحت ذريعة عدم ديمقراطيتها. لكن ما هي أسس الديمقراطية؟ فهي، في تعريفها الأوسع، تعني حكم الشعب بواسطة الشعب ولمصلحة الشعب، ولتحقيق هذا الهدف، يجب أن يكون هناك توافق بين احتياجات المجتمع وأمن أفراده واستمرارهم. بالتالي، لا يمكن للديمقراطية أن تتطور إذا كان هناك منطق للربح المطلق لصالح فئة على حساب الأخرى. وهذا ينطبق على كل من المجتمعات المتجانسة وغير المتجانسة. وبالتالي، فإن الديمقراطية العددية في المجتمعات غير المتجانسة قد تكون غير ديمقراطية مثل أي نظام ثنائي الحزب أو هيمنة حكم فرد واحد.
من المهم أن نفهم أن تطبيق النموذج الغربي للديمقراطية يعد تحديًا بسبب الفجوة في مستوى النمو السياسي والثقافي والاقتصادي. فمثل هذا التطبيق يتطلب توفر شروط أساسية لتحقيق نجاحه.
تتعلق عملية النمو بشكل كبير بالشروط المتاحة، وهذه المعايير ليست وليدة الصدفة أو مفروضة بقوة من الدول الغربية. بل هي ناتجة عن تطور تاريخي طويل مرتبط ببناء الدول الغربية، وهو ما يفتقده لبنان ومعظم دول العالم الثالث.
صحيح أن النظام التوافقي في لبنان يبرز الطائفة على حساب الفرد، مما يعد نوعاً من عدم الديمقراطية، لأنه يحصر مفهوم المواطنة ضمن الانتماء الطائفي المعترف به. إذا تحقق خيار المواطنة، سيصبح الالتزام بالطائفة قراراً فردياً، مما يزيل أي انتقاد للنظام القائم.
1- لماذا نتحدث عن “لبننة” العراق اليوم؟
يمتد الحديث حالياً حول “عرقنة” لبنان، مشيراً إلى إمكانية نشوب توترات مذهبية بين الطائفتين السنّية والشيعية كما حدث في العراق، على الرغم من الفروق الجذرية في مفهوم الأمة والهوية والولاء السياسي الذي نشأ به لبنان والعراق ككيانيين سياسيين بعد زوال السلطنة العثمانية.
منذ الميثاق الوطني عام 1943، أصبحت الهويات الطائفية حجر الزاوية في نظام الديمقراطية التوافقية في لبنان، مما أدى إلى تجميد السياسة ضمن قالب تمثيل طائفي. في المقابل، يسعى العراق ومعظم الدول العربية إلى تعزيز الهوية الوطنية بدلاً من الولاءات غير الوطنية، سواء كانت دينية أم إثنية أم قبلية. ومع ذلك، لم يؤدي ظهور هوية وطنية شاملة واحتضان مبدأ العلمانية إلى تحقيق التماسك المنشود؛ إذ استمر التناحر بين الدين والطائفية.
يمكن تلخيص الإشكالات المطروحة في مجموعتين من الأسئلة:
أولاً، هل يمثل الاعتراف الرسمي والهوياتي بالهويات الطائفية والإثنية، وتطبيق مبدأ الفيدرالية وتقسيم الثروات العامة، كلاً ضرورياً لبناء هوية مشتركة ترتكز على عقد سياسي يضمن الوحدة الوطنية؟ أم أن حصر التعددية في الهويات الدينية والطائفية يسهم في تفكك الدولة؟
ثانياً، إلى أي مدى تعتبر الديمقراطية التوافقية رادعاً للهيمنة والتحرف التسلطي في بعض الأنظمة، وكيف تعزز التوازن الطائفي والسياسي على المستوى الوطني؟ أليس من المفترض أن تمثل هذه الديمقراطية عائقاً أمام تطور النظام السياسي في لبنان؟ وما هي الشروط الضرورية لتطوير الديمقراطية التوافقية نحو نظام الأكثرية؟ وأخيراً، هل سيؤدي استمرار النفوذ الخارجي في لبنان والعراق إلى تقويض جهود تعزيز المواطنة؟
للإجابة عن بعض هذه الأسئلة، يمكن استقصاء تاريخ الدستور اللبناني ومراحل تعديله. في عام 1864، انتقل لبنان من وصاية الدولة العثمانية إلى وصاية ست دول أوروبية، ومن سلطة الأمير السنّي إلى متصرف مسيحي غير لبناني، مما أرسى نظام المتصرفية، وهو ما يمثل نقطة تحول تاريخية مهمة.
عندما فرض الانتداب الفرنسي على لبنان عام 1920 وأسّس للدولة الحديثة، حاولت السلطات تعزيز النظام المدني في مجالات الحياة كافة، لكنها انصاعت في النهاية لمعادلة تُكرّس التعايش مع الهياكل التقليدية، مما أدى إلى إنشاء نظام حقوق مدني وسياسي يحمل ازدواجية بين الطائفي والسياسي وبين المدني والديني.
اُعتمد أول دستور في لبنان خلال فترة الانتداب عام 1926، والذي منح رئاسة الدولة للطائفة المسيحية. ومع انتهاء الانتداب وتحقيق استقلال لبنان، انتقلنا إلى دستور 1943 الذي تزامن مع اتفاق بين الطوائف اللبنانية تحت ما يُعرف بالميثاق الوطني، حيث تم توزيع الرئاسات الثلاث بناءً على هذا التقسيم الطائفي.
ومع تدهور الأوضاع الأمنية، انخرط لبنان في سلسلة من الحروب المدمرة حيث كانت الجماعات الطائفية تسعى للحفاظ على السيادة مقابل أخرى ترغب في الحصول على مزيد من الامتيازات. هذه الأزمة انتهت بتوقيع اتفاق الطائف في عام 1989، الذي اعتمده أعضاء البرلمان اللبناني. تم إدخال الوثيقة إلى الدستور في تعديل عام 1990، حيث أثبتت الوثيقة استمرار الطائفية السياسية، رغم أنّها دعت إلى إنشاء هيئة لدراسة إلغاء هذه الطائفية، والتي لم تُنفذ حتى اليوم.
في ظل هذا الطائفية، بات من الواضح أن كل طائفة في لبنان تمتلك مؤسساتها الاجتماعية، الاقتصادية والتعليمية، إضافة إلى أحزابها وجمعيات شبابها ونسائها. وفي نهاية المطاف، هناك دور أيتام، حضانات، وحتى مراكز استشفاء، بالإضافة إلى الجمعيات الكشفية.
وعلى ضوء هذه الأوضاع، نجد أن أي شخص يتحدث عن الشأن العام في لبنان غالبًا ما يتطرق إلى موضوع الديمقراطية. ولكن أي ديمقراطية نتحدث عنها في غياب الديمقراطيين؟ لبنان هو جمهورية برلمانية وفق وثيقة الوفاق الوطني، حيث تشكل الانتخابات النيابية التعبير الرئيسي عن المشاركة السياسية. النواب يمثلون الشعب في انتخاب رئيس الجمهورية وتسمية رئيس الحكومة ومنح الثقة، بالإضافة إلى قضايا التشريع المعقدة.
يتجاوز مفهوم الانتخابات كونها هدفًا بحد ذاتها، إذ هي جزء من عملية المشاركة وتداول السلطة من قبل النخب، وتعكس المساءلة التي تعد جوهرًا لتطوير الأفكار الجديدة وبالتالي تحسين القيادة. جميع هذه العناصر تساهم في خلق روابط أقوى بين الشعب – المصدر الحيوي للسلطات – والدولة.
تعتبر تلك المشاركة دليلًا على نظام ديمقراطي فعال. كما أكد العديد من الاقتصاديين خبراء التنمية، فإن المشاركة والمساءلة هما أساس النجاح والتنمية المستدامة، مما يسهم في تعزيز حرية وإبداع الأفراد والمجتمعات بشكل عام.
في المقابل، يؤكد النظام الانتخابي الأكثري والمناطقي على تعزيز الكيانات الطائفية، حيث يصبح النواب وكأنهم موظفون لدى زعماء الطوائف. لذا، يجب أن يتوافق اللبنانيون على تنفيذ إصلاحات السياسة المذكورة في تعديلات الطائف، والتي تنص على تشكيل هيئة لدراسة إلغاء الطائفية السياسية. هذا يتطلب اعتماد مجلس نوابي يُنتخب بعيدًا عن القيود الطائفية، بالإضافة إلى تأسيس مجلس شيوخ منتخب لحماية حقوق الطوائف وضمان أسس العيش المشترك.
2- الهوية الوطنية الجامعة: المدخل الحقيقي لبناء الدولة
مع تزايد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تعصف بالدولة، يطرأ التساؤل: هل تتجه الدولة نحو التفكك والزوال، مما يؤدي إلى اختفاء لبنان من على الخريطة وتشتت شعبه بين المهجر والحروب الأهلية المتجددة؟ أم يظل أمامنا أمل في مستقبل لبنان؟
مرت قرن من الزمان منذ قيام “دولة” لبنان الكبير، وقد شهدت هذه الحقبة تحولات هائلة في النفوس الاجتماعية والانتماءات، إضافة إلى تغييرات جذرية في موازين القوى. هذه التحديات أظهرت بأن الفكرة الوطنية اللبنانية قد وُلِدت وأصبحت حية وقادرة على الصمود.
ومع ذلك، يظهر حالياً فوضى فكرية وسياسية منهجية في كيفية تحقيق هذه الفكرة، والتحول من حيز الإمكان إلى الفعل. الطريقة التي ستُعتمد لتحقيق هذا التحول ستكون معلمة لمصير الفكرة الوطنية.
من الواضح أن جهود الإصلاح السياسي تصطدم بممانعة جماعات سياسية من جميع الطوائف، إذ ترى هذه الجماعات أن مصالحها متشابكة في الحفاظ على الوضع الحالي، رغم كل ما يحدث من كوارث ونكسات. بل، لن نبالغ إذا قلنا إن هذه الطبقة السياسية تسعى لإدامة هذا النظام لتحقيق مكاسبها الشخصية.
تعتبر الاستراتيجيات التي تتبناها القوى السياسية المرتبطة بمصالحها أحد الأسباب الرئيسية للصراعات المستمرة في المجتمعات، حيث تُظهر هذه الأطراف استعدادها لأية حروب باردة أو عنيفة لحماية هذه المصالح عندما تشعر بأنها مهددة.
وعلى الرغم من أن النخبة السياسية ليست خارج نسيج المجتمع، إلا أنها تستمد هيمنتها وشعبيتها من مجموعة من العوامل النفسية مثل الخوف والذاكرة الجماعية، الذي غالبًا ما يكون مظلمًا، والانتماءات الوجودية. الأهم من ذلك هو أن هذه القوى تُشكّل التاريخ بصورة انتقائية لتعزيز نفوذها. لذا، فإن الإطاحة بهذه النخبة فقط لن يكون كافيًا، بل سيترك خلفه مجتمعًا مريضًا ومعقدًا.
لذا، يظهر أن الصراعات النفسية والتاريخية في لبنان تُعتبر من أكبر العوائق التي تمنع تشكيل هوية وطنية جامعة، والتي تُعتبر فريدة لبناء دولة وطنية قائمة على القيم الأخلاقية والقانونية. يجب أن نركز على إيجاد حلول ملموسة لهذه التحديات النفسية والتاريخية لتسهيل الإصلاح السياسي.
أ – يجب الانطلاق من تجارب المئة عام كنقطة مرجعية للدراسة التاريخية اللبنانية، مع استعادة التاريخ الحضاري العظيم للبلاد، من فلاسفة مثل زينون الرواقي وحتى الشخصيات البارزة مثل فؤاد شهاب، مستعرضين المراحل المتنوعة للبشرية.
ب – من الهام تحويل “حب الوطن” المتواجد في قلوب اللبنانيين إلى حب شامل لكل المواطنين، مما يساعد على نقل مفاهيم المجتمع من مشاعر الخوف والعداء إلى الثقة والأمل.
عندئذٍ، يمكن تحويل حب الوطن والمواطنين إلى مشروع سياسي يسعى لبناء دولة وطنية عادلة وأخلاقية، تعيد القيم والضمير، بدلاً من تدميرها من خلال التحولات والخلافات الطائفية.
نأتي الآن إلى محور هام آخر، هو الانقلابات العلمية السريعة الناتجة عن الثورة التكنولوجية الرابعة. يتفاعل الشباب اللبناني مع هذه التحولات، وينغمس في عالم افتراضي يعكس قيمًا وآمالًا مختلفة عما يواجهه في الحياة الواقعية. هذا يشكل تحديًا كبيرًا لهويته الوطنية.
وتصبح الهوية الوطنية أكثر أهمية، حيث أنها تقدم حلولًا شاملة لجميع القضايا النفسية والاجتماعية، الحاجز الحقيقي الذي يمنع الشباب من الارتباط بوطنهم. في هذه البيئات، يُعتبر البقاء متصلًا بقيم مجتمعية حقيقية العامل الأساسي لتفادي الفوضى المرتبطة بالعولمة.
في ختام الحديث، لا تُمثل الهوية الوطنية اللبنانية فكرة مثالية، بل هي المفتاح لاستعادة الوطن من التحديات العديدة كالحروب الأهلية والتهجير، حيث أن التمسك بها يُعتبر بمثابة إثبات وجود.
ثانيًا: في مقاربة الواقع العراقي
1 – فشل النخب السياسية في إدارة الدولة
بعد تهاوي نظام صدام حسين في 9 أبريل 2003، نشهد اليوم صراعات تتبع طابعين متداخلين في إدارتها:
أ- تدور حول “الدمج الطائفي” الذي يُجمع جميع أنماط الخطاب الطائفي، حيث يتم توحيد الشيعة من الجنوب الريفي الفقير مع النخبة الشيعية في المدن الكبرى.
ب- يتم تحويل هذا الصراع إلى صراع إيديولوجي بين الشيعة والسنة، مما يمنح هذا النزاع معنى وهدفًا، بدل أن يظل بلا طائل.
يُظهر كل فرد عراقي في هذه اللحظة المعقدة حاجة ملحة للتعبير عن هويته الطائفية، مما يجعل أي معنى آخر للهوية غير قابل للاحتواء. هذه الديناميات الأيديولوجية والطائفية تقود إلى واقع اجتماعي معقد.
الإصلاح السياسي والإداري والأمني في العراق: التحديات والفرص
تُعتبر التحولات التاريخية التي مر بها العراق محفزا لإعادة التفكير في نظام الحكم. كُتب دستور العراق الدائم في عام 2005 كخطوة نحو معالجة آثار الماضي من خلال رؤى سياسية وتاريخية. كان الهدف هو إنهاء السيطرة التي كانت تمارسها نخبة من جماعة معينة، وذلك من خلال تعزيز شراكة سياسية تعمل على توزيع السلطة في إطار نظام فيدرالي وإدارة لامركزية.
على الرغم من الجهود المبذولة، إلا أن النخب السياسية العراقية لم تستطع تحقيق نموذج تداول السلطة بالشكل المطلوب، مما أعاد إنتاج نظام ديمقراطي يُركز على الأكثرية الديموغرافية. هذا الأمر يرتبط بإنتاج حالة الاستقطاب الطائفي، حيث تتولى الأكثرية الديموغرافية سيطرة على جميع مؤسسات الدولة، بما في ذلك البرلمان والحكومة وأيضا القضاء. الدستور الذي قام على مبدأ توزيع السلطات، في الوقت نفسه مركز السلطة لدى البرلمان ورئيس الوزراء من الأكثرية، مما جعل صلاحيات رئيس الجمهورية بروتوكولية إلى حد كبير.
يواجه الوعي السياسي السنّي تحديات كبيرة في التعامل مع التغيرات السياسية. يرفض بعض الأفراد من النخبة السياسية قبول فكرة حقوق الأقليات، ويستمر الصراع بين الطوائف حول مفهوم الأكثرية. كان بالإمكان تصميم آليات مثل “الفيتو” لضمان مشاركة فعالة للأقليات، خاصة أن قضية الأقليات لا تقتصر على الأكراد فقط.
إن تركيز السلطة في يد الأكثرية يؤدي إلى انتهاكات خطيرة لحقوق الأقليات ويجعل النظام يبدو كاحتكار. هذا الظرف يضر بمفهوم الديمقراطية ويشعر الأقليات بأن هناك وهمًا في المشاركة. من جهة أخرى، يتمتع الأكراد بنظام سياسي يضمن توزيع السلطات بشكل أفضل مما يتلقاه السنة، مما يزيد القلق بشأن المستقبل السياسي للأقلية في البلاد.
تحديات العراق: نحو مستقبل أفضل
تتعدد الأزمات التي واجهها العراق، حيث أدى الاحتلال الأمريكي عام 2003 إلى تفاقم الأوضاع. هذه الحقبة تركت آثارًا عميقة على النسيج الاجتماعي والسياسي العراقي. يتطلب الأمر إصلاحًا سياسيًا وإداريًا وأمنيًا شاملًا لمواجهة هذه التحديات.
العراق بحاجة إلى نموذج إصلاحي يضمن التنوع والشمولية، من خلال خلق مناخ سياسي يوفر فرصًا متساوية لجميع الأطراف. يجب أن تكون هناك قنوات حقيقية تتيح للأقلية التعبير عن مصالحها والمشاركة في صنع القرار.
تمتاز العدوانية بكونها اعتمدت على مبررات ثبت أنها غير صحيحة ومزيفة، وقد اعترف مسؤولون أمريكيون وبريطانيون بذلك. الأضرار الجسيمة لتلك الحرب أصبحت واضحة للجميع، حيث أدت إلى تدمير البلد ومؤسساته، وتشتيت المجتمع، بالإضافة إلى قتل واعتقال وتشريد الملايين من العراقيين، وخاصة الكفاءات العلمية والخبراء، تحت طائلة قوائم المطلوبين والقوانين مثل قانون الاجتثاث.
يمثل المشروع الوطني للإصلاح العمود الفقري لوحدة العراق واستقلاله، حيث يهدف إلى إنهاء حالة الانقسام الديني والطائفي والعنصري، ويعمل على تعزيز ثقافة العيش المشترك. يشمل ذلك تحقيق المصالحة الوطنية العميقة وتحقيق العدالة وتكافؤ الفرص بين جميع العراقيين بمختلف انتماءاتهم، ممهدًا الطريق لحل شامل ونهائي.
أ – لتحقيق مصالحة وطنية حقيقية تعزز الوحدة وتزيل التوترات الطائفية التي نشأت خلال الاحتلال، يجب أيضًا تسريع عودة النازحين والمهجرين، ومكافحة الفساد وإعادة الأموال المنهوبة. يتطلب هذا إصلاح الأجهزة الأمنية وضبط انتشار السلاح لضمان الأمن والاستقرار.
ب – يجب تشكيل لجنة قانونية متخصصة لإعادة صياغة الدستور بما يضمن الاستقلال ويحدد طبيعة نظام الحكم. هذا يشمل الفصل بين السلطات وحقوق الأفراد والأقليات، وضمان حرية الدين والمعتقد، فضلاً عن معالجة القضايا الناجمة عن الاحتلال وبناء نظام وطني ديمقراطي يعتمد المواطنة.
ج – يتطلب بناء نظام سياسي حديث يستفيد من تجارب الدول المتطورة، وتوزيع المسؤوليات بين الحكومة المركزية والمحافظات بشكل يتماشى مع التجربة العراقية. يجب أن يتمتع هذا النظام بالمرونة والكفاءة، ويعمل على توزيع الثروات وتحقيق العدالة بين جميع مكونات المجتمع.
تعتبر إعادة إعمار العراق أحد الأركان الأساسية لأي مشروع وطني، نظرًا لما تعرض له من دمار على مستوى الدولة والمؤسسات. لذا يجب على الدول المتقدمة المشاركة في هذا الإعمار باستخدام أحدث التقنيات، مما يشكل حجر الزاوية لقبول المشروع من قبل الشعب.
ثالثًا: الفوارق والاختلافات
1 – الاختلافات الثقافية في التعامل مع الاحتجاجات
رغم وجود أوجه شبة بين النظام السياسي في العراق ولبنان، إلا أن الفروق العميقة بين ثقافتي البلدين والشعبين تبقى واضحة.
لقد أظهرت التحولات السياسية في العراق تشابهًا كبيرًا مع النموذج اللبناني، حيث سعى البعض لبناء طائفية سياسية كحل وحيد. ولكن التحليل العميق يكشف اختلافات جوهرية بين العراق ولبنان. في لبنان، على عكس العراق الذي يشهد عادةً أغلبية ديموغرافية واضحة، لا توجد أغلبية ديموغرافية، بل توازن ديمغرافي بين مختلف الجماعات، مما يمنع تقييد صلاحيات رئيس البرلمان بسبب انتماء سياسي أو إثني. كما أن لرئيس الجمهورية صلاحيات أوسع مما يحدده الدستور العراقي.
برزت هذه الفروق خلال الاحتجاجات في كلا البلدين. فقد واجهت الاحتجاجات في العراق قسوة وعنفًا غير مسبوقين، بينما مرت الاحتجاجات في لبنان بسلاسة وهدوء. هذه الفجوة تسلط الضوء على الفروق الثقافية بين الشعبين، وكان درسًا مهمًا للذين يقارنون بينهما، خاصةً أولئك العراقيين القلقين من فكرة “لبننة” العراق.
تعاملت القوات اللبنانية مع الاحتجاجات وفق القانون وبشكل حضاري، كما ينبغي للدولة الحديثة أن تفعل. بينما استخدمت القوات العراقية عنفًا وحشياً لم يسبق له مثيل. في تظاهرات سلمية حققت 7 آلاف مصاب بين killed وinjured خلال خمسة أيام على الرغم من أن الدستور يكفل هذه الاحتجاجات، لم يكن هناك استجابة حقيقية من الحكومة العراقية، بل اكتفت بإصدار تبريرات ضعيفة. وفي هذه الأثناء، أثبت رئيس الوزراء عادل عبد المهدي أنه شخص ضعيف ومحافظ على السلطة بأي ثمن.
ردود الفعل على دعوات المرجعية الشيعية للتحقيق المستقل كانت مخيبة للآمال، فقد تم تكليف فالح الفياض، المعروف بتبعيته المطلقة لإيران، لرئاسة لجنة التحقيق. ومن المعلوم سلفاً أن نتائج هذا التحقيق ستنتهي بإلقاء اللوم على “قوى تخريبية” وسط المتظاهرين، مما يعكس غياب الاهتمام الحقيقي بقضايا العراقيين.
2 – مجتمع لبرالي عصري مقابل هيمنة الإنتماء القبلي والديني
على الرغم من وجود تشابه في التنوع الديني والثقافي بين العراق ولبنان، فإن هناك اختلافات ثقافية واضحة. يتمتع المجتمع اللبناني بمناخ ديمقراطي ليبرالي حيث حقوق المرأة محفوظة ويعترف الجميع بدورها. بينما في العراق، تظل المرأة تعاني من قيود دينية واجتماعية، وبالكاد تستطيع ممارسة حقوقها الأساسية. ففي حين تُعتبر حقوق المرأة في لبنان محمية، يعاني العراقيون من تراجع مستمر في حقوقهم منذ عام 1958.
تُظهر المشاركة القوية للمرأة اللبنانية في الاحتجاجات تمايز المجتمع اللبناني عن نظيره العراقي، حيث تقتصر الاحتجاجات في العراق غالبًا على الذكور. على الرغم من وجود قانون يضمن تمثيل المرأة بنسبة 25% في البرلمان، فإن هذا التمثيل غالبًا ما يكون شكليًا، حيث يتم اختيار النساء بناءً على توجيهات السياسيين ولا يمثلن في الحقيقة قضايا النساء.
المجتمع اللبناني لا يتأثر بالنزاعات السياسية كالتي تشهدها العراق، مما يسمح له بالتقدم نحو المزيد من الحريات والحقوق، وهو ما تتطلع إليه النساء العراقيات أيضًا.
نتيجة لآراء رجال الدين المتحفظة، لا يزال المجتمع يعبر عن ليبرالية واضحة رغم وجود تيارات محافظة. هؤلاء المحافظون، ورغم تمسكهم بعقائدهم وأنماط حياتهم، لا تؤثر ليبرالية المجتمع على وجودهم. تكمن المشكلة حينما يتولى المحافظون زمام الحكم، إذ يسعون دائماً إلى فرض رؤاهم الدينية والاجتماعية المحدودة على المجتمع، مما يؤدي إلى أضرار جسيمة على البلاد ككل.
في المقابل، فإن وجود قوى ليبرالية في الحكومة لا يضر بالمجتمع أو الدولة، بل يعزز التعددية ويضمن الحريات العامة للجميع. ورغم أن هناك نماذج سياسية محافظة مفتوحة، مثل حزب النهضة التونسي، إلا أنه توجد أسباب ثقافية وتاريخية تميز المجتمع التونسي. يحاول القادة الدينيون الهيمنة على تفكير وسلوك الشعب ونشاطاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، مما يجعلهم يسيرون في اتجاهات محددة.
أما بالنسبة للمجتمع العراقي، فيعاني من تأثيرات دينية وقبلية تتناوب على سيطرته. حتى إن استطاع المجتمع الإفلات من هيمنة القوى الدينية، تتجلى سيطرة القوى القبلية والعائلية التي تحاول حبسه في قوالب ماضوية.
تتدخل المرجعيات الدينية بشكل مستمر في الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية. رغم أن تلك التدخلات ليست سلبية دائماً، إلا أن العديد منها لا يعزز الهوية الوطنية العراقية أو يساهم في اندماج العراق بالمجتمع الدولي. التحدي الأكبر الذي يواجهه العراق هو التدخل الإيراني بمساحة دينية، ولكنه يتجلى في حقيقة أنه تدخل عسكري وسياسي واقتصادي وثقافي، يهدف بشكل استراتيجي إلى إضعاف العراق، الذي كان منذ العصور منافساً ثقافياً وسياسياً وعسكرياً للدولة الفارسية.
وفي خلاصة الأمر
مع تعقد الأوضاع العربية وغياب سياسة متماسكة لدعم العراق، واستمرار الفهم السطحي الأمريكي لمشكلات المنطقة، تمكنت إيران من تحقيق المزيد من الهيمنة على مقدرات العراق ودول أخرى.
تتشابه ملامح لبنان والعراق بقدر محدود، حيث لبنان يتمتع بدولة عصرية وشعب ليبرالي، بينما العراق لا يزال تحت وطأة القوى الدينية والقيم القبلية المتخلفة. الطبقة السياسية في العراق تفتقر إلى القدرات اللازمة لممارسة السلطة بشكل مناسب، ولا تملك الحلول لمشكلات المجتمع.
ومع ذلك، يزداد الوعي العراقي بأهمية دولة عصرية ترعى كل المواطنين بلا تمييز. يمثل الاحتجاج في البصرة في عام 2018 بداية واعدة لبروز إجماع وطني يُركز على إقامة مجتمع عصري.
في نهاية المطاف، تتشابه المعاناة في المجتمعات القريبة، وتظل الحاجة ملحة إلى تجاوز الطائفية. إن التحول إلى علمانية شاملة قد يكون الحل لإنهاء حالة الاستقطاب، وتشكيل هوية واحدة تعكس الواقع التاريخي والاجتماعي.





