
حسين موسى
تجاوزت الحرب الروسية الأوكرانية الـ100 يوم، وفي هذه الورقة، يقدم المستشار السياسي حسين موسى، تحليلًا معمقًا حول الأبعاد الاقتصادية والجيوسياسية لهذه الحرب.
أولاً: الخلفية التاريخية للأزمة:
على الرغم من استقلال أوكرانيا منذ عام 1991، إلا أن روسيا ترى فيها جزءاً من نفوذها، متبعةً سياسة مشابهة لتلك التي طبقها بريجنيف، حيث تحدد السيادة الأوكرانية. كانت العلاقات التاريخية بين البلدين متشابكة، فخلال التاريخ، كان يُطلق على أوكرانيا اسم “مالا روسيا”، مما يعكس النظرة الروسية تجاهها.
بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، استمرت روسيا في دعم أوكرانيا، إذ تُشير التقارير إلى أن المساعدات الروسية للميزانية الأوكرانية بين 1991 و2013 بلغت حوالي 250 مليار دولار.
من بين الأمور الخلافية الرئيسية بين الدولتين ترسانة أوكرانيا النووية، حيث وافقت كييف على التخلي عنها بعد توقيع مذكرة بودابست المتعلقة بالضمانات الأمنية في عام 1999، وهو الأمر الذي تم انتهاكه لاحقًا.
تضمن معاهدة الأمن الأوروبية الموقعة في إسطنبول، حق كل دولة في اختيار خططها الأمنية، إلا أن هذا الحق تم خرقه من كلا الطرفين عام 2014. وفي أغسطس 2016، زادت روسيا من تواجدها العسكري قرب حدود القرم، ما أدى إلى توترات جديدة بين الطرفين.
تحدثت أوكرانيا عن وقوع حوادث عسكرية واتهامات متبادلة بالقيام بعمليات إرهابية، حيث وصف الرئيس الأوكراني الوضع بأنه خطر يستدعي اهتمام العالم.
ثانياً: بداية الحرب وأسباب الصراع الحقيقية:
في 21 فبراير 2022، ادعت الحكومة الروسية أن الهجمات الأوكرانية استهدفت منشأة حدودية تتبع جهاز الأمن الفيدرالي، مما أدى إلى توتر متزايد. وفي نفس اليوم، أعلنت روسيا رسميًا الاعتراف بجمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لوغانسك الشعبية كدولتين مستقلتين، مما زاد من تفاقم النزاع.
تفاصيل الحرب الروسية الأوكرانية
في 24 فبراير 2022، أطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عملية عسكرية ضد أوكرانيا، حيث تحركت القوات الروسية المعتمدة أساسًا على الحدود. تبعت الغزو غارات جوية استهدفت المنشآت العسكرية، وعبور الدبابات من بيلاروسيا. نتيجة لذلك، أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الأحكام العرفية، بينما سُمعت صفارات الإنذار في جميع أنحاء البلاد. تأثرت البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات بسبب الهجمات الإلكترونية والقصف الروسي، وتم احتلال العديد من المدن، بما في ذلك محطة تشيرنوبيل النووية. ورغم ذلك، ذكرت مصادر دفاعية أمريكية أن القوات الروسية واجهت مقاومة أكبر من المتوقع.
دوافع وأسباب الصراع
لا يمكن فهم النزاع بين روسيا وأوكرانيا بمعزل عن الصراعات الجيوسياسية الأوسع، خاصة خطط حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي لاستخدام أوكرانيا كوسيلة للضغط على روسيا. يمكن اعتبار العملية العسكرية الروسية بمثابة مواجهة مع الأطلسي، وليس مجرد صراع مع أوكرانيا.
من الأسباب الرئيسية أيضًا هو الوضع في إقليم دونباس، حيث تعتقد روسيا أن قمع الحكومة الأوكرانية للسكان الناطقين بالروسية يعكس تمييزًا عنصريًا. منذ ثمانية أعوام، استمرت الحكومة الأوكرانية في قصف المنطقة مستهدفة المدنيين، مما زاد من توتر العلاقة.
يتناول النزاع قضايا متعددة، بعضها ناتج عن تفكك الاتحاد السوفياتي، بينما البعض الآخر ناجم عن تدخل غربي، وبشكل خاصة من الولايات المتحدة. وتحاول أوكرانيا الانضمام إلى الناتو والاتحاد الأوروبي، كما أعلنت نيتها تولي السلاح النووي. إضافة لذلك، يمثل إعلان استقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك وعودة شبه جزيرة القرم إلى روسيا من القضايا الحساسة.
وضح بوتين أن أحداث 2013-2014، بما في ذلك سقوط الرئيس يانوكوفيتش، كانت نتيجة محاولات انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي. إن خطط أوكرانيا لامتلاك السلاح النووي تصدرت قائمة الأسباب خلف التصعيد، حيث أشار زيلينسكي قبيل بدء العمليات العسكرية إلى عزم أوكرانيا تطوير سلاحها النووي، وسط توقعات روسية بأن ذلك سيكون مسألة وقت فحسب.
يشير البعض أيضًا إلى أن فصل الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية عن مرجعيتها الروسية يعكس محاولات غربية لاستهداف روسيا، حيث يُعتقد أن الانفصال تم بدعم من واشنطن ودول أوروبية.
محاولات التفاوض والحلول
على صعيد المفاوضات، تطالب روسيا أوكرانيا بتقليص قواتها المسلحة، والتزام كييف بحيادها، بالإضافة إلى رفض وجود قواعد عسكرية أجنبية على أراضيها. كما تشترط موسكو تأمين حقوق الناطقين بالروسية في أوكرانيا.
من جانبها، تطالب أوكرانيا بوقف إطلاق النار، انسحاب القوات الروسية، والحصول على ضمانات أمنية من دول أخرى، مشددة على أهمية الاحتفاظ بالجيش الأوكراني. وتؤكد أن النقاش حول المناطق المتنازع عليها يجب أن يكون منفصلًا عن اتفاق السلام الرئيسي.
تأثير الحرب على الاقتصاد الدولي
تتجاوز تداعيات الحرب المعاناة الإنسانية، حيث تؤثر على الاقتصادات العالمية بطرق عدة، مما يزيد من تحديات التنمية الاقتصادية مستقبلًا.
في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، يواجه الاقتصاد العالمي تباطؤاً ملحوظاً وزيادة غير مسبوقة في معدلات التضخم. تتدفق هذه الآثار عبر ثلاث قنوات رئيسية. أولاً، يشهد سوق السلع الأولية، خاصة الغذاء والطاقة، ارتفاعات كبيرة، مما يؤدي إلى تضخم متزايد وتآكل قيمة الدخول وبالتالي ضعف الطلب. Secondly، الدول المجاورة لأوكرانيا تعاني من انقطاع في التجارة وسلاسل التوريد، بالإضافة إلى زيادات ملحوظة في تدفقات اللاجئين. وأخيراً، تقلص ثقة رجال الأعمال ونمو مشاعر عدم اليقين بين المستثمرين يؤديان إلى تراجع أسعار الأصول وزيادة التوترات المالية، مما يشجع على هروب الأموال من الأسواق الناشئة.
مع كون روسيا وأوكرانيا من كبار المنتجين للسلع الأولية، تأثرت سلاسل الإمداد مما أدى إلى ارتفاع شديد في الأسعار العالمية، وبخاصة أسعار النفط والغاز الطبيعي. أما أسعار الغذاء، فقد ارتفعت بشكل كبير، حيث تسهم كلا البلدين بنسبة 30% من صادرات القمح حول العالم.
عندما ننظر إلى الأجل الطويل، قد تغير الحرب المعادلة الاقتصادية والجغرافية-السياسية العالمية إذا حدث تحول في تجارة الطاقة، وإعادة هيكلة سلاسل التوريد، بالإضافة إلى تغيير في أنماط المدفوعات وإعادة التفكير في احتياطيات العملات. كما أن تصاعد التوترات الجغرافية-السياسية يهدد بتعميق مخاطر التجزؤ الاقتصادي، خاصة على مستوى التجارة والتكنولوجيا.
بالنظر إلى الوضع في أوروبا، فإن الخسائر التي تكبدها اقتصاد أوكرانيا فادحة. تحتم العقوبات المكثفة ضد روسيا ضعفا في الأنشطة المالية والتجارية، مما سيؤدي إلى ركود عميق في روسيا. بينما يتسبب انخفاض سعر الروبل في رفع معدلات التضخم، بانعكاسات سلبية على مستوى معيشة الشعب. تعد الطاقة القناة الرئيسية لنقل هذه التداعيات عبر أوروبا حيث تعتمد العديد من الدول على الغاز الطبيعي الروسي. هذا، وقد ينتج عن ذلك انقطاعات في سلاسل الإمداد، ما يؤدي بدوره إلى رفع معدلات التضخم وتأخير التعافي من آثار الجائحة.
تتجه أوروبا الشرقية لمواجهة ارتفاع في تكاليف التمويل وزيادة تدفق اللاجئين، حيث استقبلت أكثر من 3 ملايين لاجئ من أوكرانيا، وفقًا لبيانات الأمم المتحدة. كما ستواجه الحكومات الأوروبية ضغوطاً على ميزانياتها العامة بسبب الإنفاق المتزايد على تأمين مصادر الطاقة والميزانيات الدفاعية.
فيما يتعلق بإفريقيا والشرق الأوسط، يُتوقع أن تعاني المنطقة تأثيرات ضارة من ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة مع وجود أوضاع مالية عالمية متشددة. على سبيل المثال، تستورد مصر 80% من قمحها من روسيا وأوكرانيا، وهي أيضاً وجهة سياحية رئيسية لكلا البلدين، مما سيؤدي إلى انخفاض في الإنفاق السياحي. ستبذل السياسات الرامية لإدارة التضخم، مثل زيادة الدعم الحكومي، ضغطاً إضافياً على الميزانيات العامة الهشة. تفاقم الأوضاع المالية الخارجية قد يزيد من تدفق رؤوس الأموال إلى الخارج ويؤدي إلى تأثيرات سلبية على النمو في البلدان ذات الديون المرتفعة.
في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، من المحتمل أن يكون تأثير التداعيات من روسيا محدوداً بسبب ضعف الروابط الاقتصادية. ولكن من المؤكد أن تباطؤ النمو في أوروبا سيترك آثاراً سلبية على الدول الكبرى المصدرة. ستحظى اقتصادات آسيان، بما في ذلك الهند وبعض جزر المحيط الهادئ، بأكبر الأثر على حساباتها الجارية. كما سيؤدي تراجع السياحة في الدول المعتمدة على الزوار الروس إلى تفاقم الوضع. بالنسبة للصين، من المتوقع أن تكون الآثار المباشرة أقل، لكن تظل أسعار السلع الأولية وضعف الطلب في الأسواق الكبرى للتصدير يمثلان تحديات مستمرة.
ستجتمع آثار مماثلة في اليابان وكوريا، حيث يمكن أن تساعد التدابير الجديدة الداعمة للنفط في التخفيف من تلك التداعيات. يؤدي ارتفاع أسعار الطاقة إلى زيادة التضخم في الهند، الذي بلغ بالفعل مستويات عالية. جميع هذه العوامل تشير إلى تغيرات هامة في التوجهات الاقتصادية العالمية.
تساهم الإنتاجية المحلية والاعتماد على الأرز بدلاً من القمح في تحسين الأمن الغذائي في آسيا. ومع ذلك، فإن ارتفاع الأسعار نتيجة الواردات المكلفة من المواد الغذائية والطاقة سيؤثر سلبًا على المستهلكين. لكن يمكن لتدابير الدعم والحدود العُليا المقررة لأسعار الوقود والغذاء والأسمدة أن تخفف من هذه الضغوطات، رغم أن هذا قد يصبح عبئًا على المالية العامة.
تواجه الحكومة المصرية تحديات ملحّة بسبب الحرب الروسية الأوكرانية. تُعرف مصر بأنها من أكبر الدول المستوردة للقمح حيث تعتمد على روسيا وأوكرانيا لتزويدها بـ 85% من احتياجاتها. أدى النزاع إلى اضطراب كبير في إنتاج القمح الأوكراني وحركة التصدير، مما صاحبه زيادة كبيرة في الأسعار. وهذا يتطلب من الحكومة المصرية توجيه موارد إضافية لتأمين إمدادات القمح وحماية الأمن الغذائي، خصوصًا في ظل التضخم المتزايد وتراجع قيمة الجنيه المصري. يتوقع أن يرتفع معدل التضخم بنسبة 2.3 نقطة مئوية ليصل إلى 7.5% هذا العام، مما يزيد من الضغوطات على سكان يعيش قرابة 30% منهم في فقر.
أعلنت الحكومة عن خطة لتوسيع مساحة الأراضي المزروعة بالقمح بمقدار مليونَي فدان بحلول نهاية عام 2024، والتي تهدف إلى تعزيز الأمن الغذائي في البلاد. ورغم أن هذه الخطوة تعتبر استراتيجية متوسطة الأجل، إلا أنها لا تعالج التحديات العاجلة بسبب الحرب المستمرة.
التداعيات الجيوسياسية:
أدى الغزو الروسي لأوكرانيا والقيود المفروضة على صادرات المنتجات الروسية، بما في ذلك النفط، إلى ارتفاع أسعار النفط لتعود إلى مستويات ما قبل أغسطس 2014، حيث تخطى سعر البرميل مئة دولار أميركي. بالإضافة إلى ذلك، واجهت الدول المنتجة الأخرى تحديات في الإنتاج، مما قد يضمن بقاء الأسعار مرتفعة لفترة طويلة.
هذه الظروف تطرح تساؤلات جادة حول كيف ستؤثر الاحتياطيات المالية المتراكمة على هذه الدول في المضي قدمًا نحو إصلاحات اقتصادية، خاصة في ضوء الضغوط الساعية للمكاسب السياسية الفورية. تشير النتائج إلى أن الدول المستوردة للنفط، مثل الأردن، قد تواجه مخاطر اقتصادية متزايدة نتيجة ارتفاع الأسعار، بينما تجري محادثات حول قروض قد لا تكون متاحة كما كانت في السابق.
على صعيد ردود الفعل، بينما أدانت معظم الدول العربية الغزو الروسي في مواقفها الرسمية داخل الأمم المتحدة، كانت الآراء العامة أكثر تنوعًا. وقد أعرب البعض عن استغرابه من عدم صدور إدانة قوية من المجتمع الدولي للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين أو الغزو الأميركي للعراق. هذا التباين يبرز التحديات التي تواجهها المنطقة للتعبير عن مواقف متوازنة، خصوصًا في ظل محنة الأوكرانيين الذين يقاومون الحرب.
حتى الآن، حاولت الدول في المنطقة، بما في ذلك إسرائيل، الحفاظ على الحذر في ردود أفعالها، لكن مع استمرار النزاع وتأثيراته، قد يصبح من الصعب المحافظة على هذا الموقف.
المراجع:
- موسوعة ويكبيديا بعنوان الصراع الروسي الأوكراني
- شبكة الميادين نت– تقرير عن الحرب الروسية الأوكرانية
- موقع صندوق النقد الدولي – الحرب في أوكرانيا وأصداؤها عبر مختلف مناطق العالم
- جوناثان، روسيا وأوكرانيا: ما مدى تأثير الحرب على الاقتصاد العالمي؟، بي بي سي
- عمرو حمزاوي، مركز مالكوم كير كانيغى للشرق الأوسط، ما تعنيه الحرب الروسية في أوكرانيا لمنطقة الشرق الأوسط
- سكاي نيوز العربية، حرب روسيا وأوكرانيا تلقي بظلالها.. اقتصاد العالم يدفع الثمن





