

أ.د. غادة عامر
عميد كلية الهندسة جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا
لقد بدأ القرن العشرون بأكثر الحروب تنسيقًا وحركة، بينما القرن الحادي والعشرين الذي انطلق من عقود من الصراع البارد، شهد ظهور صراعات غير متكافئة وغير تقليدية. في الحرب العالمية الأولى، فقدت الدول مئات الآلاف من الأرواح بسبب معارك على أراضٍ محدودة. أما الآن، فإن العديد من الفاعلين يعملون على تطوير استراتيجيات متطورة للسيطرة على “المجالات البشرية”، مما يؤدي إلى عواقب خطيرة على الساحة المادية. التقدم في التكنولوجيا قام بتوجيه الاهتمام إلى البعد الإنساني، وتم تناول هذا التحول بشكل مكثف في الجيش الأمريكي خلال الحرب على الإرهاب. في مقال نشر عام 2009 في “Small Wars Journal”، تم الإشارة إلى أن التحول الضروري للجيش الأمريكي يكمن في نقل مراكز القوة من الجانب المادي إلى الجانب البشري، مما قد يكون له تأثيرات كبيرة على البيئات المتنوعة لمواجهة الثورات.
لقد تغيرت ظاهرة اعتبار السكان كمركز ثقل بشكل جذري بعد الربيع العربي، حيث زودت التكنولوجيا الحركات السكانية اللامركزية بالقدرة على الإطاحة بأنظمة حكومية متنوعة. هذه الأحداث زلزلت العالم ودُرست من قبل قادة في الشرق والغرب، مما أظهر قوة البعد البشري وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي في حشد الجماهير. كانت وسائل الإعلام لها دور بارز في زيادة الانقسام والفوضى داخل الدول المستهدفة، معتمدة على تكنولوجيا المعلومات بدلاً من الاعتماد فقط على القوات العسكرية التقليدية.
الثورات العربية والتحالفات التي قادتها الولايات المتحدة في المنطقة استندت إلى استراتيجيات متكاملة تتجاوز الجوانب العسكرية، حيث تم إدخال القوات المسلحة فقط في لحظات حساسة وبأقل تكلفة ممكنة في دول مثل العراق وسوريا. كان من الواضح لجميع القادة العسكريين أن هذه الصراعات تركت أثرًا عميقًا على المستوى التكتيكي من خلال التأثير على الاستراتيجيات الحربية. وقد علق “فاليري غيراسيموف”، رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية ونائب وزير الدفاع الأول، بأن حرب المعلومات تفتح آفاقًا عديدة وغير متكافئة لتعطيل القدرات القتالية للعدو.
ويبقى السؤال مفتوحًا حول موعد بدء ظهور مجال الأمن السيبراني الاجتماعي. على سبيل المثال، تستند العمليات الإعلامية الروسية الحالية إلى تاريخ طويل من الدعاية في الحقبة السوفيتية، مع دراسة معمقة للمجتمع المستهدف. وفي عام 1951، لخص أستاذ القانون “هارولد لاسويل” آلة الدعاية السوفيتية، مشيرًا إلى أنها كانت تستهدف تشكيل آراء المجتمع بطريقة موجهة.
الاستراتيجية الأساسية للدعاية الروسية تركز على تقليل التكاليف المادية اللازمة لتعزيز وتوسيع النفوذ الروسي على المستويات الداخلية والدولية. هذه الدعاية تعتبر صراعًا للسيطرة على عقول الأفراد، مما يسمح بتحقيق الأهداف المادية بأقل تكلفة ممكنة. بالتالي، يهدف هذا النوع من الدعاية إلى التأثير على أفكار غالبية السكان في دولة معينة كخطوة نحو السيطرة على تلك الدولة.
تفتح حرب المعلومات إمكانيات واسعة غير متكافئة لتقليل القدرة القتالية للعدو
فاليري غيراسيموف – رئيس أركان الجيش الروسي الجنرال
تعتبر هذه الرؤية ذات أهمية كبيرة في نشوء مجال الأمن السيبراني الاجتماعي كفرع ناشئ في إطار الأمن القومي، حيث تلعب دورًا كبيرًا في جميع أبعاد النزاعات المستقبلية، سواء كانت تقليدية أو غير تقليدية، ولكل منها تداعيات استراتيجية. يعرف الأمن السيبراني الاجتماعي بأنه مجال علمي ناشئ يركز على دراسة وتحليل التغييرات الاجتماعية والثقافية الناتجة عن استخدام الإنترنت وتأثيراتها على سلوك الأفراد، إلى جانب بناء البنية التحتية الإلكترونية اللازمة لتعزيز الهوية والثقافة في بيئة المعلومات المتغيرة.
بينما يميل الأمن السيبراني التقليدي إلى استخدام التكنولوجيا لاختراق نظم المعلومات، يعتمد الأمن السيبراني الاجتماعي على تكنولوجيا الاتصال لاختراق السلوك البشري والتأثير عليه. يصبح الإجراء مشابهًا لمفهوم “القرصنة المعرفية”. من الضروري أن يدرك جميع القادة والمجتمع هذا النظام الناشئ للسماح له بالتأثير على القوة الوطنية والقيم الأساسية.
تشمل أبحاث الأمن السيبراني الاجتماعي دراسة المعلومات المضللة، سلوك الأفراد عبر الإنترنت، النشاط الجماعي، والتأثيرات الإعلامية. يعتبر هذا المجال محوريًا في تغيير مشهد الصراعات على جميع الجبهات، حيث يسعى إلى إضعاف الروح المعنوية للقادة والقوات العسكرية، مما يُشكك في مصداقيتهم. كما يؤثر أيضًا على الجمهور من خلال تقويض ثقتهم في المؤسسات الوطنية، مما يمكّن أي فاعل من تحقيق النصر قبل بداية المعركة.
باختصار، فإن الحرب المجتمعية السيبرانية ستصبح مركزية في “الحروب غير المتناظرة”، التي تهدف إلى تعزيز السيطرة على القوات والأسلحة، والتأثير على الشعور المعنوي للقوات المسلحة. يتطور الأمن السيبراني باستمرار مع تقدم الزمن، ومن المحتمل أن يصبح الأمن السيبراني الاجتماعي أحد الدعائم الحيوية للبقاء في عصر الإنترنت المتزايد التعقيد. لذلك، فإن على القادة فهم هذا المجال لحماية الأمن الداخلي من التلاعب الخارجي وتثقيف المجتمع حول طبيعة البيئة المعلوماتية المتطورة والمخاطر المرتبطة بها.
الدكتورة غادة عامر: رائدة في الهندسة والتكنولوجيا
تشغل الأستاذة الدكتورة غادة عامر منصب عميد كلية الهندسة بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، بالإضافة إلى كونها زميلة ومحاضرة في كلية الدفاع الوطني بأكاديمية ناصر العسكرية العليا. تستمر في مهمتها كسفير تقني لوكالة الفضاء المصرية للفترة من 2022 إلى 2024.
بفضل خبرتها، تتولى غادة رئاسة مركز الدراسات الاستراتيجية للعلوم والتكنولوجيا، وتعمل كنائب رئيس للمؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا. لقد شغلت العديد من المناصب البارزة، بما في ذلك:
- وكيل كلية الهندسة للدراسات العليا والبحوث في جامعة بنها.
- مدير مركز الابتكار وريادة الأعمال في أكاديمية البحث العلمي بمصر.
- مدير مركز الابتكار وريادة الأعمال في جامعة بنها.
- الرئيس التنفيذي والمؤسس المشارك لمختبر الابتكار ASTF.
- الرئيس السابق لقسم الهندسة الكهربائية بجامعة بنها.
- المدير التنفيذي للأوقاف العالمية.
تم اختيارها كعضو في لجنة تحكيم جوائز رولكس للابتكار في سويسرا، مما يعكس تأثيرها في مجال الهندسة.
تم الاعتراف بجهودها على المستوى الدولي، حيث تم اختيارها من قبل الاتحاد الدولي لجمعيات التعليم الهندسي (IFEES) ومجلس عمداء الهندسة العالمي (GEDC) في الولايات المتحدة الأمريكية كواحدة من أبرز القصص الملهمة للمرأة في ميادين الهندسة والتكنولوجيا في أفريقيا.





