
العميد صلاح الدين الزيداني الأنصاري
التاريخ يعد بمثابة مفكرة للأحداث الماضية، وعندما نسترجع تلك اللحظات لا نقوم بذلك لمجرد الذكرى؛ بل لإعادة تنظيم الصور في ذاكرتنا واستحضار ما حدث خلالها. يقول البعض أن التاريخ يعيد نفسه، وهو فعلاً يذكر فقط من كان له دور حقيقي في صنع أحداثه. تُروى هذه الأحداث عبر الأجيال، وتتكرر في كل زمان، ولكن بشخصيات وصور مختلفة وكأنه قد حدث في اليوم ذاته.
القائد القرطاجي حنبعل: ملحمة تاريخية
أجمع المؤرخون على عبقرية القائد القرطاجي حنبعل، أو “هانيبال” كما كان يُطلق عليه الرومان، وذلك بسبب القوة والشجاعة التي أظهرها جنوده الليبيون خلال حملته على روما وفي غزواته في جنوب أوروبا. لقد كانت حماستهم وقدرتهم على تنفيذ المهام الصعبة تجعلهم محل ثقة القائد حنبعل، حيث لم يتردد في تكليفهم بأصعب التحديات.
يعتبر العديد من القادة العسكريين عبر العصور حنبعل قائدًا استراتيجيًا بارعًا. وفي هذا السياق، يشير الجنرال الأمريكي نورمان شوارزكوف إلى أنه تعلم الكثير من حنبعل، حيث أفاد أنه طبق تكتيكاته في حملته المعروفة بـ “عاصفة الصحراء”. حنبعل كان قائدًا فذًّا يتمتع بصيرى ثاقبة ورؤية عسكرية متميزة.
لمحة تاريخية:
عاش حنبعل في فترة من التوتر في منطقة البحر الأبيض المتوسط، حين حاولت روما فرض سيطرتها على القوى العظمى في ذلك الوقت، والتي كانت قرطاج واحدة منها. بدأ الصراع بين الرومان والقرطاجيين كصراع تجاري، إلا أنه سرعان ما تحوَّل إلى صدامات عسكرية حيث خاض الطرفان العديد من المعارك البرية والبحرية.
قرطاجنة كانت من أهم المدن على الساحل، وبعد فتحها في عام 698م، تضاءلت أهميتها لصالح تونس، بينما أصبحت قرطاج أثرًا غير مسكون. يجدر بالذكر أن هناك أكثر من مدينة تسمى قرطاجنة، وقرطاجنة الحالية تقع على البحر الأبيض المتوسط، حيث تضم مرفأ ضخمًا وتعد من أهم القواعد البحرية الإسبانية.
لم يكن حنبعل يطيق الرومان، واعتبر أن قرطاج يجب أن تسعى لاحتلال روما وإلا ستفشل في تأمين مستقبلها، مما يجعلها عرضة للاستعمار والتدمير.
في ربيع عام 216 ق.م، قاد حنبعل جيشًا ضخمًا يضم 90,000 جندي و12,000 فارس، بالإضافة إلى 37 فيلاً وآلاف من البغال المحملة بمعدّات الحرب، في رحلة عسكرية جريئة لم يتجاوز عمره خلالها السبع والعشرين عامًا.
أفكار حنبعل الجديدة:
لقد عبر حنبعل نهر الإيبرو وأخضع قبائل الكيلث الأيبيرية عبر سلسلة من المعارك السريعة التي أذهلت كل من جنوده والأعداء، مما يدل على عبقريته العسكرية وقدرته على القيادة في أصعب الظروف.
تحتوي صفحات التاريخ على الكثير من الدروس العسكرية حول دقة التخطيط والتوقيت الأمثل لتنفيذ هجمات قوية على الأعداء. كان على حنبعل أن يضمن ظهره قبل أن يتقدم شمالاً نحو جبال البرنس.
وقعت الجولة الثانية في فرنسا الحالية ضد قبائل الكيلث، حيث أعدت القبائل كمينًا محكمًا للهجوم عليه تحت قيادة خبراء عسكريين من روما واليونان ومرسيليا. تمكنت هذه القبائل من محاصرة المنافذ الجبلية، مما أحدث فوضى في صفوف جيش حنبعل. حتى أن الأفيال أصابها الرعب وبدأت في القفز في الوديان. لكن حنبعل كان يعرف الطريق جيدًا، وعاد ليأخذ قواته في مسارات جانبية، ما أثار دهشة خصومه الذين كانوا يظنون أن هذه المسارات مسدودة بالكامل.
اختار حنبعل أن يوقف العمليات العسكرية ووجه جنوده لقطع آلاف الأشجار من الغابات المحيطة. ثم أضرم النار في جبال الألب، وهو ما يعكس عبقريته الفذة. عند بدء النيران، اشتعلت الصخور التي سدت المسارب، وبدأ يتقدم حنبعل، سابحًا أمام ألغاز الطبيعية القاسية.
لم يمض وقت طويل حتى بدأ الجيش في اجتياز المسارات بنجاح، متجاوزًا جبال الألب التي يبلغ ارتفاعها 12 ألف قدم. وفي خطوة جريئة، شقوا طريقهم حول أعدائهم المتحصنين في معركة حاسمة بدأت ليلاً بدت كأنها حلم يصعب تصديقه. توقف الجيش في النهاية عند نهر الرون.
وقفت قوات حنبعل أمام نهر الرون، وهو حاجز طبيعي يصعب تجاوزه دون تحمل خسائر فادحة. كانت بحاجة إلى الأفيال الضخمة لتفكيك كتائب الفرسان المعادية التي انتظرت عودتها. كانت تلك الأفيال تُعَد بمثابة الدبابات الثقيلة في عصرها. في مواجهة تحديات النهر، أظهرت عبقرية حنبعل مرة أخرى؛ حيث قرر بناء طوافات، مما سمح له بسحب الأفيال عبر النهر. تبعتها الأفيال الذكور، وفي ذات الوقت اجتاز الجيش الضفة.
أبلغ جواسيس روما عن العبور، وانطلقوا عبر الغابات لنقل خبر اجتياز حنبعل للنهر، محاولين اليقظة لوقف الزحف الأفريقي. وعند نهر تيسنو بالقرب من بافيا، وقع المواجهة العسكرية الأولى على نطاق واسع بين القوات الأوروبية والأفريقية. وأثبت الجيش الروماني هزيمته على يد حنبعل للمرة الأولى في معركة برية.
تُعتبر إنجازاته الكبرى من أبرز ما وُثق في التاريخ، حيث قاد جيشه عبر جبال البرانس والألب إلى شمال إيطاليا، محققًا انتصارات ساحقة في معارك تريبيا وتراسمانيا وكناي. خلال 15 عامًا، احتل حنبعل معظم إيطاليا، مضطرًا في النهاية للعودة إلى شمال أفريقيا لمواجهة الغزو الروماني مرة أخرى.
معركة كناي
معركة كناي كانت من أبرز المعارك التي جرت على الأرض الرومانية، وقد أطلق عليها المؤرخون لقب “الموقعة العظمى”. في أواخر عام 217 ق.م، كانت روما قد حصلت على الوقت الكافي لتجميع قواتها المسلحة كاستعداد لمواجهة جديدة مع حنبعل.
مع بداية الربيع في العام التالي، انتشرت أخبار وصول القوات الأفريقية، مما أثار قلق السناتو الروماني. قرر أعضاؤه حشد جميع القوات المتاحة للدفاع عن روما. انضم جيش القنصل باولوس إلى معسكر القنصل فيرو في أبوليا، وهم يتقدمون سويًا نحو كناي لمواجهة حنبعل في معركة من المعارك الأشهر في التاريخ القديم، وهو ما كان يرغب حنبعل في حدوثه.
بدأت الاستعدادات المبكرة لهذه المعركة من قبل حنبعل وقواته في عام 216 ق.م، وذلك بعد فترة من الاستراحة والتجهيز.
بعد سلسلة من المعارك الناجحة التي شهدت انتصارهم على العدو في أرضه، تمكن القائد حنبعل من تحقيق تقدم ملحوظ من خلال تدريبات مكثفة ومناورات مستمرة على مدار أشهر. استراتيجياتهم شملت استدراج العدو وتهيئة الظروف المناسبة لمعركة حاسمة، حيث كان حنبعل يختار بعناية المكان والتوقيت.
رداً على ذلك، قام العدو، الذي كانت روما تقوده، بتعبئة جيش غير مسبوق قوامه حوالي 86 ألف جندي، يتألف من 50 ألف جندي مشاة و20 ألف فارس، مُدججين بأنواع متعددة من الأسلحة مثل الرماح الطويلة والبلطات والأقواس.
كانت قيادة هذا الجيش مقسومة بين القنصلين باولوس، المعروف بحذره، وبين القنصل فيرو، الذي اتسم بطباع المغامرة. في يوم المعركة، كان القائد حنبعل يراقب تشكيلات الجيش الروماني كما يفحص لاعب الشطرنج حركاته. وضعت قواته في تشكيل طويل وواسع مع مشاته من المقاتلين الليبيين على الجانبين، بينما جاء مشاة الأسبان والغال في الوسط.
سير المعركة:
بدأ حنبعل المعركة بإشعال فتيلها عبر قصف قوات الرومان بحجارة قوية من مقاليع الجيش. نتيجة لهذه الهجمات، أصيب القنصل باولوس بجروح خطيرة، لكنه استمر في القيادة رغم الألم.
ثم قام حنبعل بعملية هجومية سريعة من قبل الخيالة الليبيين، مما جعل الرومان يعتقدون أنهم حققوا النجاح. ومع ذلك، تراجع الخيالة كجزء من خطة محكمة لحنبعل، نحو سهل كناي المكشوف.
في خضم المعركة، بدأ حنبعل بسحب الأسبان والغال إلى الوراء خطوة بخطوة، وهو يراقب الوضع بنفسه. هذا التراجع كان خطوة جريئة، حيث فتح فجوة كبيرة في الصفوف. ولم يدر بخلد الرومان أنهم وقعوا في فخ محكم.
مع تزايد الضغط، اندفع الرومان إلى داخل تلك الفجوة، مما جعلهم عُرضة لهجوم مفاجئ. في الوقت الذي كانت فيه صفوفهم مشغولة بالصراع للنجاة، أطلق حنبعل هجومه النهائي، حيث حاول مشاة الليبيين محاصرة الرومان من الجانبين.
بعد قليل من الوقت، شهدت ساحة المعركة اكتظاظاً هائلاً من جنود الرومان الذين كانوا يحاولون الهروب من الطوق المحكم. في تلك الأثناء، استخدم حنبعل استراتيجيات مختصرة بتوحيد صفوف جيشه لاستئصال العدو بشكل نهائي.
مع حلول الظهيرة، كانت كتائب الرومان محاصرة بشكل كامل، محاطة بالهزيمة والرعب. ترك حنبعل جنوده للمضي قدماً في تنفيذ الخطط النهائية، محققاً انتصاراً أسطورياً رُسِم في تاريخ المعارك، حيث فقدت روما نحو 50 ألف مقاتل في مواجهة هذا القائد العبقري.
كان قرار حنبعل الجريء هو شن الحرب في قلب عقر دار العدو، محققاً بذلك السيطرة على عوامل المكان والزمان. هذان العنصران يعدان أساسيين في تحقيق النصر، واستطاع حنبعل استخدام جميع الموارد والتكتيكات المتاحة بدون ترك أي مجال للصدفة.
في روما، أصبح ذكر اسم حنبعل كابوساً يلاحق الأمهات الرومانيات، حيث يرددن لأطفالهن قبل النوم “هانيبال أوبورتس”، مما يجعله رمزًا للخوف وحتى اليوم. لقد عاش الرومان مرارة الهزائم المتتالية على يد حنبعل على مدى خمسة عشر عامًا، والتي أظهرت عظمة بصيرته العسكرية وقادته كواحد من أعظم القادة العسكريين في العصور القديمة.
الدروس المستفادة:
أحدث حنبعل تحولًا جذريًا في مفاهيم الحرب السائدة في عصره، حيث أدخل مبادئ جديدة على مر التاريخ. مغامرته الجريئة عبرت الحدود إلى أرض العدو كانت صدمة كبيرة للرومان، وقد اعتبرها المؤرخون مغامرة شجاعة ولكن خطيرة. لكنه تمكن من تحقيق النصر بفضل حكمة قائد وبصيرة جنوده.
النقاط البارزة في حملة حنبعل ومعركة كناي الكبرى تشمل الدروس التالية:
- أجبر حنبعل العدو على قتال في أرضه، مختارًا بحذر مكان وزمان المعركة. كانت هذه الاستراتيجية واحدة من أهم المفاهيم العسكرية، مما جعلها قاعدة ملهمة للقادة عبر العصور.
- سار حنبعل مسافات طويلة بخطط مدروسة لتجاوز العقبات والصعوبات، ملتزماً بهدف واضح مما جعل منه قائدًا غير تقليدي يتجاوز المفاهيم السائدة آنذاك.
- استخدم حنبعل تكتيك المناورة والانسحاب السريع، مما أدى إلى نجاح الهجوم المضاد في ضربة جريئة تعد مثالاً على فنون الحرب الحديثة.
- كانت الفيلة أول سلاح ثقيل يستخدمه حنبعل، مما أعطى جيشه تفوقاً مدهشاً وأربك العدو بأسلحة جديدة لم يروا مثلها من قبل.
- استغل حنبعل طبيعة الأرض، مانحاً نفسه مزايا تكتيكية في المعركة.
- واجه الوحدات الثقيلة للعدو بكتائب سريعة وقابلة للتحرك، مما زاد من فاعليته في المعركة.
- واجه حنبعل تحديات الإمدادات، حيث كان يرسل سفراء إلى قرطاجة طالباً الدعم رغم معرفته أنه لن يصل، مما أثر بشكل كبير على نتائج حملته.
تعد معركة كناي الكبرى علامة فارقة في التاريخ، حيث تم إدارتها بتخطيط عسكري متميز، وقد تعتبر واحدة من أعظم الإنجازات الحربية. لا يزال ذكر حنبعل قائمًا بعد مرور أكثر من 2000 عام، إذ يظهر لنا في كل مرة كقائد تاريخي ملهم وشجاع.





