
أنور الشرّاد – باحث عسكري
تشهد صناعة المدفعية تطورات مستمرة، خاصة مع توجه المطورين نحو زيادة العيار لتحقيق طاقة فوهة أعلى. ولكن، واجهت هذه الجهود تحديات تقنية وعملياتية ملحوظة، من أبرزها صعوبة التعامل مع ذخيرة ذات العيار الكبير. على سبيل المثال، تزن قذيفة العيار 140 ملم ما بين 38-40 كلغم، ويبلغ طولها نحو 1.5 م، مما يجعلها غير سهلة الحمل أو التداول.
من أجل التغلب على هذه العقبة، تم اقتراح استخدام أنظمة التلقيم الآلي. وفي هذا السياق، أظهرت بعض الأبحاث الطموحة إمكانية استبدال شحنات الدافع الصلبة بأخرى سائلة، مما يسهل نقلها مباشرة إلى المدفع عن طريق أنابيب. تعتمد هذه التقنية على حقن الشحنة السائلة في حجرة الاحتراق، حيث تتولد غازات عالية الضغط تدفع القذيفة بسرعات فائقة، مما يوفر مزايا عدة مثل الكثافة العالية وتقليل حجم الداخل.
الأبحاث خلصت أيضًا إلى أن هذه الشحنات السائلة يمكن أن تزيد من معدل النيران بشكل ملحوظ، مما يسمح بتعديل مدى الرمي عبر ضبط كمية الشحنة السائلة المستخدمة. بدأ تطوير شحنات الدافع السائلة في الولايات المتحدة الأمريكية أواخر الأربعينيات واستفاد من التقدم الذي حققه العلماء الألمان أثناء الحرب العالمية الثانية.
إحدي النتائج البارزة كانت تطوير مدفع تجريبي من عيار 90 ملم يعمل بهذه التقنية، حيث أجريت التجارب الأولى عليه في 1951. ورغم ذلك، أظهرت الاختبارات أداءً متذبذبًا، مما أثار تساؤلات حول فعالية الدوافع السائلة مقابل الصلبة. علاوة على ذلك، كانت الشحنات السائلة الأولى ذات طبيعة شديدة التآكل، مما تطلب التعامل معها بعناية خاصة.
واجهت بريطانيا مصيرًا مماثلًا، حيث بدأت التجارب في 1952، وأسفرت عن تطوير مدفع تجريبي من عيار 83.8 ملم يستخدم حمض النتريك كجزء من مزيج الدافع. ومع ذلك، لم تؤد التجارب البريطانية أيضًا إلى نتائج مثمرة، مما يشير إلى التحديات المستمرة في هذا المجال.
شهدت السبعينات تجددًا ملحوظًا في الاهتمام لدى الغرب بالطاقة الدافعة السائلة، خاصة بعد أن قامت البحرية الأمريكية بتطوير دافع سائل أحادي (monopropellant) لصالح الطوربيدات. يتمتع هذا البديل بكثافة عالية وخصائص رائعة، منها سمية أقل وقابلية اشتعال منخفضة، مما يجعله خيارًا آمنًا وأقل عرضة للانفجار.
في منتصف السبعينات، جاءت محاولة لاستغلال هذه التقنية الحديثة في إنتاج مدفع من عيار 75 ملم يعتم على شحنات دافعة سائلة، والذي كان جزءًا من برنامج أمريكي متقدم لتطوير العربات خفيفة الحركة. إلا أن هذه المحاولة واجهت تحديات تقنية عديدة أدت إلى نتائج غير مرضية.
ثم تحول التركيز نحو استخدام تقنية الدافع السائل الأحادي في المدافع التي تعتمد على الشحنات السائلة مع نظام التغذية المتجددة. شركة جنرال إلكتريك كانت رائدة في هذا المجال، وبدأت العمل عليه في عام 1973. وفي عام 1977، توصلت لتطوير مدفع تجريبي يعمل بهذا النظام ويستخدم شحنات دافعة سائلة من عيار 105 ملم.
مع مرور الوقت، أجريت دراسات على استخدام المدافع التي تعمل بالشحنات السائلة مع التغذية المتجددة في الدبابات، لكن في عام 1991، قررت القوات المسلحة الأمريكية إيقاف هذه الدراسات، معتبرة أن الدوافع السائلة قد تكون أكثر ملاءمة في سياق سلاح المدفعية عوضًا عن مدافع الدبابات.








