Register To WDS
داليا زيادةمقالات رأي

تونس: خلفيات لم تُكتشف بعد

داليا زيادة

تندرج تونس، تلك الجوهرة الصغيرة ذات التاريخ الغني والسكان الديناميكية، في واحدة من أجمل مناطق البحر الأبيض المتوسط. تمثل تونس حالةً استثنائية في العالم العربي، حيث تميزت ديناميكياتها السياسية بالمفاجآت والتحولات العميقة التي تركت أثرًا بالغًا على النظامين الاجتماعي والسياسي. وقد ألقت تلك التحولات بظلالها على أسئلة معقدة تتعلق بشرعية ودوافع هذا التغيير.

في السنوات العشر الماضية، شهدت تونس تحولات جذرية بارزة. ثلاثة أحداث تاريخية تبرز كفواصل رئيسية في مسيرتها الحديثة:

  • أولاً، الثورة الشعبية التي قادت إلى خروج ديكتاتورية بن علي في عام 2011، مما ألهم موجات من ثورات الربيع العربي في المنطقة.
  • ثانياً، تنحي الإسلاميين عن الحكم استجابة للاحتجاجات الجماهيرية في 2013.
  • ثالثاً، الوفاة المفاجئة للرئيس الباجي قائد السبسي في 2019، في وقت كانت البلاد تعاني من أزمة فساد سياسي وأزمة اقتصادية عنيفة.

ثمة قدرة فريدة للدولة التونسية على التغلب على التحولات السياسية مع الحفاظ على تماسكها ودفع الشعب نحو مسار الديمقراطية.

المثير للإعجاب هو أن تونس تمكنت من مواجهة جميع هذه التحديات الكبرى دون تأثيرات سلبية على تماسك الدولة. ومع ذلك، فإن السؤال المطروح حاليًا هو مدى قدرة الدولة، التي تعاني من الضغوط، على مواجهة الاضطرابات السياسية المستجدة نتيجة القرارات الحاسمة التي اتخذها رئيس الجمهورية قيس سعيد في أواخر يوليو.

في خطوة غير متوقعة، أطلق الرئيس سعيد في 25 يوليو حملة قوية ضد الحكومة والبرلمان، معتمدًا على صلاحيات المادة 80 من الدستور التونسي للاستحواذ على جميع السلطات. وقد برر سعيد قراراته باعتبارها ضرورية للتعامل مع الأزمات المتصاعدة التي شهدتها البلاد، مشيراً إلى الاحتجاجات الحادة الناتجة عن عجز النظام عن إدارة الشؤون العامة وإصلاح الاقتصاد المتراجع. منذ ذلك الحين، قام سعيد بإقالة رئيس الوزراء ونحو نصف أعضاء الحكومة، بما في ذلك وزراء الدفاع والداخلية والعدل والمالية.

تبقى الأسئلة مفتوحة حول قدرة تونس على تجاوز هذه الأزمة السياسية. ووسط الجدل الإعلامي وتشعب الآراء، يسعى البعض لتصوير الوضع على أنه انقلاب بينما تحذر أصوات أخرى من تهديدات التنظيمات الإرهابية، مستندةً إلى تجارب دول الربيع العربي الأخرى. في المقابل، تحاول وسائل الإعلام التي تعارض الإسلاميين وضع قرارات سعيد في سياق المعركة الإيديولوجية الإقليمية، مما يجعل فهم الأمور أكثر تعقيدًا.

تجري أحداث مهمة في تونس تتطلب تسليط الضوء على عدة نقاط حيوية. نقطة البداية تدور حول المخاوف المتعلقة بالديمقراطية في البلاد، وهذا يقودنا للتساؤل: هل تونس بالفعل دولة ديمقراطية؟ النقطة الثانية تركز على طبيعة القرارات التي اتخذها قيس سعيد، الذي يحكم البلاد كخيار شعبي. هل هذه القرارات تهدف إلى تخريب الدولة التي يقودها؟ فسلامته الشخصية تعتمد بشكل كبير على استقرارها. أما النقطة الثالثة، فهي تطرح فرضية وجود صراع أيديولوجي بين العلمانيين والإسلاميين، بينما يمكن النظر إلى الوضع كصراع سياسي للحفاظ على البلاد من الفساد وتحقيق الإصلاحات التي يطالب بها الشعب منذ فترة طويلة.

ما الدافع وراء تصرفات قيس سعيد؟

لفهم دوافع الرئيس التونسي، قيس سعيد، في حربه ضد الحكومة والبرلمان التابعين لنظامه، يجب إدراك السياق التاريخي لهذه الاحتجاجات. فقد شهدت تونس، منذ 25 يوليو، مظاهرات حاشدة تستجيب لاحتياجات المواطنين. منذ مارس الماضي، لم تتوقف التظاهرات، وهي تعكس مطالبة واضحة بمحاسبة النخبة السياسية على الفساد المتفشي، والذي ضاعف من معاناة الشعب مع الفقر خاصةً بعد انتشار فيروس كورونا.

تشير الإحصائيات الرسمية إلى ارتفاع نسبة البطالة من 14% إلى 17.4% في الربع الأخير من عام 2020 نتيجة الانكماش الاقتصادي الذي شهد أدنى مستوى له. وفقًا لدراسة مشتركة بين البنك الدولي والمعهد الوطني للإحصاء، كان معدل الفقر في تونس 15.2% في عام 2020، حيث أفادت 30% من الأسر بمخاوف من نفاد الطعام بسبب آثار الجائحة. تفاقمت الأوضاع مع ارتفاع حالات الإصابة بالفيروس، مما اضطر الدول المجاورة لإغلاق حدودها، لتحول تونس إلى ما يشبه سجنًا لشعبها.

إن نظام الرئاسات الثلاث في تونس يعد من أبرز الأسباب التي أدت إلى التراجع الاقتصادي.

النظام الحالي المعروف بنظام الرئاسات الثلاث، هو واحد من العقبات الرئيسية التي تعترض سبيل التقدم الاقتصادي. فقد تم تصميم الدستور بعد الثورة لتفادي العودة إلى الاستبداد، لكن هذا النظام المُعتمد والذي يرتكز على توزيع السلطات بين الرئاسات الثلاث أثبت فشله في الواقع. على مدى السنوات الثلاث الماضية، لم تتقدر البلاد على إحراز أي تقدم حقيقي بسبب الصراع المتواصل بين هذه الرئاسات.

هذا الوضع المتأزم قاد قيس سعيد، الذي ينتمي لبيئة غير سياسية، إلى اتخاذ قرار بوقف هذه الدوامة. وفي ظل مسؤولياته تجاه الشعب، وخبرته في القانون الدستوري، قرر سعيد اتخاذ خطوات جريئة للتعاطي مع هذه الأزمات. وهو الآن يستجيب لمطالب التونسيين، متسلحًا بإرادة شعبه وتحقيق التطور للأمام.

في تونس، يعيش الشعب تحت نظام يتسم بتحكم صارم للرئاسة، حيث تم تعليق عمل الحكومة والبرلمان، مما يتيح للرئيس قيس سعيد التركيز على قضايا ملحة مثل الفقر ومواجهة الأوبئة. هذه الخطوات، رغم ما تتعرض له من انتقادات، تعتبر ضرورية لحماية المصلحة العامة بعيداً عن الحملات الإعلامية التي تحاول التصوير بأنها مجرد صراع أيديولوجي.

تصريحات قيس سعيد

في رسالة مرئية نشرها مكتب الرئاسة، أكد الرئيس قيس سعيد أنه ليس لديه طموحات لإنشاء نظام سلطوي. وبيّن أنه ملتزم باحترام الحقوق والحريات. وشدد على أهمية الوقوف مع الشعب لحماية الدولة من الفساد الذي يهدد استقرارها. وختم سعيد بالشعور بالتفاؤل حول الانتصار في هذه المعركة التي وصفها بأنها بلا دماء، تستند إلى القانون، وموجهة من أجل العدالة والحرية.

قضية البرلمان

بعد قرار الرئيس بتعليق البرلمان في 25 يوليو، انطلقت أصوات معارضة من جماعات إسلامية ووسائل إعلام متنوعة زاعمة أن ما يحدث هو “انقلاب”. نُشر هذا الادعاء عبر منصات التواصل، لكن الكثير من الدول مثل الولايات المتحدة أكدت عدم اعتبار ما يحدث كعملية انقلاب. يتمثل الخطأ في مقارنة الوضع التونسي بما حدث في مصر عام 2013، فالتصوير بأنه انقلاب هو تضليل حقيقي عن المعاناة الاقتصادية التي يعيشها الشعب.

الواقع أن الصراع ليس بين الإسلاميين والعلمانيين، بل هو صراع بين نخبة سياسية فشلت في تلبية احتياجات الشعب. تختصر التوترات الحالية في تونس بمطالب للإصلاح السياسي والاقتصادي، أكثر من كونها نزاعاً أيديولوجياً. الرئيس سعيد، الذي لا ينتمي إلى أي حزب، وجد نفسه في صفوف المواطنين الذين يطمحون لإصلاحات حقيقية.

الاستقرار الديمقراطي

على الرغم من التحديات، كان لدى الأكاديميين الغربيين توقعات بتجارب ديمقراطية ناجحة في تونس ومصر بعد الربيع العربي. رغم الاختلافات بين البلدين، كان الأمل في الاستقرار السياسي ونجاح التحول الديمقراطي قائماً، لكن هذا يتطلب تجاوباً حقيقياً من القيادة السياسية مع تطلعات الشعب وإصلاحات حاسمة.

تشهد الساحة السياسية في تونس تحديات كبيرة منذ صعود الإسلاميين، سواء من جماعة الإخوان المسلمين في مصر أو حركة النهضة في تونس، إلى السلطة عبر الانتخابات. لقد ضللهم طموحهم عن قبول أنهم استغلوا الديمقراطية لتحقيق أهدافهم، بينما يظهرون حقيقة أنهم لا يؤمنون بها فعلاً. بعد استيلائهم على الحكم، تبين أنهم يمارسون نفس الأساليب الفاسدة التي اتبعها السابقون في الأنظمة الاستبدادية. وقد أدرك المصريون بسرعة هذه الحقائق، مما أدى إلى ثورة شعبية دعمها الجيش في يونيو 2013، في حين لا تزال تونس تكافح حتى الآن ضد الفساد الذي يمارسه الإسلاميون.

بعد إزاحة نظام الإخوان في مصر عام 2013، ذهب بعض الأكاديميين إلى المبالغة في وصف تونس بأنها “الديمقراطية الناجحة الوحيدة في العالم العربي”، مشيرين إلى استيعاب البلاد لوجود الإسلاميين في الحكم. ومع ذلك، أصبح الوضع اليوم مقلقاً، حيث يحذرون من أن الديمقراطية التونسية في خطر بسبب تحركات قيس سعيد لمحاسبة السياسيين، بما في ذلك حزب النهضة. تم وصف سعيد من قبل بعض وسائل الإعلام بالعناصر الانقلابية التي دمرت دعائم الديمقراطية. يفتقر هؤلاء المحللون إلى التوازن ويصدرون أحكاماً سريعة جداً فيما يتعلق بالأزمات الحالية التي تعيشها تونس.

تُعَد ديمقراطية تونس المزعومة، التي تعتمد على إجراء انتخابات دورية وتبني دستور مثالي على الورق، فاشلة في تحسين حياة المواطنين. بالعكس، لقد استغلها النخبة السياسية — سواء العلمانيين أو الإسلاميين — بطرق أثرت سلباً على الظروف الاقتصادية والاجتماعية للناس. لذا، ليس هناك داعٍ للقلق المبالغ فيه بشأن مستقبل الديمقراطية، فالوضع الراهن لا يمكن أن يصبح أسوأ مما هو عليه بالفعل.

كيف نحمي تونس من عواقب الربيع العربي؟

السؤال الجوهري حول تونس لا يتمحور حول كونه انقلابًا أو حقاً دستورياً، بل هو أكبر بكثير ويتعلق بكيفية ضمان سلامة الدولة واستمرارها. يجب أن يكون التركيز الآن على معالجة التحديات الاقتصادية وتأسيس مشاريع لمواجهة الفساد وبدء إصلاحات اقتصادية حقيقية. خلال الأسابيع الماضية، عرض عدة قادة عرب على قيس سعيد المساعدة في إنعاش الاقتصاد التونسي، مما يدل على أهمية تعاون المنطقة.

تتطلب هذه المرحلة مساعدة قيس سعيد على تجاوز الاضطرابات الحالية وإعادة الأمور إلى نصابها. للأسف، تحقق ذلك قبل انتهاء فترة الثلاثين يوماً التي تم خلالها تجميد البرلمان يبدو غير مرجح، ولكن يجب أن يتم بأسرع وقت ممكن لمنع تصاعد أعمال العنف أو استغلال الجماعات الإرهابية للوضع الحالي كما حدث في بقية دول الربيع العربي. لا يخفى على أحد أن العديد من الجماعات المتطرفة في ليبيا قد جندت عدداً من الشباب التونسي خلال السنوات الماضية.

في تاريخ 30 يوليو، قام تنظيم داعش بنشر بيان يتهم فيه الإسلاميين في تونس بالوقوع تحت نفس اللعنة التي حلت بالإخوان في مصر. وحذروا من عزمهم استغلال الفوضى السياسية لتمديد نفوذهم. لذا، فإن الأولوية القصوى اليوم هي توحيد القوى للحفاظ على تونس وجيرانها من التهديدات الداخلية والخارجية.

تتعلق دوافع وأسباب الاضطرابات السياسية في تونس بحاجتها العاجلة لدعم استراتيجيات فعّالة تهدف إلى إعادة بناء الدولة وتعزيز استقرارها. يُعتبر التركيز على تحقيق تعافٍ سياسي واقتصادي أمرًا ضروريًا لضمان مستقبل واعد. يسعى رئيس الدولة قيس سعيد إلى تكريس جهوده لإعادة تونس إلى مسارها الصحيح، وتأسيس قاعدة اقتصادية قوية تدعم المصالح الوطنية.

داليا زيادة

داليا زيادة هي محللة سياسية مصرية وكاتبة معروفة، حصلت على جوائز متعددة. قدمت مؤلفات عدة تتناول العلاقات المدنية العسكرية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومن أبرز أعمالها كتاب “مصر: الجيش، الإسلاميين، والديمقراطية الليبرالية” باللغة الإنجليزية. تدير داليا حاليًا مركز دراسات الديمقراطية الحرة، وقد درست العلاقات الدولية والأمن الدولي في كلية فليتشر للدبلوماسية والقانون بجامعة تافتس الأمريكية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى