Register To WDS
داليا زيادةمقالات رأي

صراع الأنهار: كيف تشكل المياه مصير الشرق الأوسط

داليا زيادة

تعد النزاعات المسلحة جزءً راسخًا في تاريخ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. هذه المنطقة تعاني من صراعات يومية على الأرض وحروب أهلية، إضافة إلى النزاعات بالوكالة، فضلاً عن نشاط التنظيمات الإرهابية بمختلف أشكالها. ومع ذلك، تستعد المنطقة لدخول حقبة جديدة مرتقبة، حيث سيتمحور الجدل حول المياه، والتي يُتوقع أن تكون التحدي الأكثر خطورة على الإطلاق. هذا الأمر ينجم عن أهمية الموارد المائية في ضمان الحياة البشرية وتوفير بيئة ملائمة، وكذلك لأن هذه النزاعات حول المياه تلعب دورًا جوهريًا في تشكيل التحالفات الجيوسياسية.

جوهر حروب المياه في المنطقة:

تعكس الحروب على المياه في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تعقيدًا أعمق مما يبدو للوهلة الأولى. هذه الصراعات ليست مقتصرة على ندرة الموارد المائية أو عدم العدالة في توزيعها، بل تمثل جزءًا من خطط سياسية واقتصادية أوسع، مما يجعل الوضع أكثر تعقيدًا وخطورة. بناءً على هذا الفهم، يمكن تقسيم النزاعات المائية إلى فئتين رئيسيتين.

الفئة الأولى تتعلق بـ “الصراعات السياسية المائية”، حيث تستخدم الدول التي تسيطر على موارد المياه هذا الامتياز للضغط على جيرانها لتحصيل أهداف سياسية أو دبلوماسية. تجري هذه الصراعات بوضوح في النزاع القائم حول نهري دجلة والفرات بين تركيا والأكراد في شمال العراق وسوريا، وأيضًا النزاع الممتد على نهر الأردن بين إسرائيل والدول العربية المحيطة.

أما الفئة الثانية فتتمثل في “صراعات الطاقة المائية”، والتي تدور في المسطحات المائية الكبرى مثل البحار والأنهار. تتعلق هذه النزاعات بانتزاع الطاقة الكامنة من قاع البحر أو استخدام قوة المياه لتوليد الطاقة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك هو الصراع بين تركيا واليونان وقبرص حول ترسيم الحدود البحرية. كما يوجد صراع متنامٍ حول النيل الأزرق بين إثيوبيا والسودان ومصر، والذي يمكن تصنيفه أيضًا ضمن الصراعات السياسية المائية.

لفهم تعقيدات هذه الحروب بشكل أفضل، علينا أن نركز على خريطة مصر التي تشهد معركتين مائتين حاسمتين. الأولى تقع في الشمال، حيث تتصاعد التوترات بين تركيا واليونان في شرق البحر المتوسط. بينما الأخرى في الجنوب تشهد توترات محتملة بين مصر والسودان وإثيوبيا. إن هذه الصراعات تشكل تهديدًا لأمن واستقرار المنطقة ككل.

الحرب على الطاقة في شرق البحر المتوسط:

شهدت السنوات الأخيرة تصاعدًا حادًا في الصراع بين تركيا واليونان في شرق البحر المتوسط. هذا الصراع دفع الدول في منطقة الشرق الأوسط، وخاصة من الخليج العربي وشمال إفريقيا، إلى النزول في ساحة المعركة. في ديسمبر 2019، أبرمت تركيا اتفاقية عسكرية وبحرية مع حكومة الوفاق الوطني في ليبيا، مما مكنها من التحرك في المياه المتنازع عليها مع اليونان بحثًا عن الهيدروكربونات.

لقد اعتبرت اليونان هذه الإجراءات تهديدًا مباشرًا لمصالحها الاقتصادية وأمنها القومي. وفي ذات الوقت، سمحت الاتفاقية العسكرية لتركيا بإرسال القوات العسكرية والمرتزقة إلى ليبيا، مما زاد من مخاوف مصر تجاه الأمن القومي لديها، خصوصًا في ظل التوترات بين مصر وتركيا بعد الإطاحة بنظام الإخوان المسلمين عام 2013.

في رد فعل على ذلك، وقّعت مصر واليونان في أغسطس 2020 اتفاقية لترسيم المنطقة الاقتصادية الخالصة بينهما، بهدف إيقاف التمدد التركي في البحر المتوسط وتحجيم تهديداتها للأمن القومي لكلا البلدين. هذا التعاون مع قبرص وإسرائيل نتج عنه إنشاء “منظمة غاز شرق البحر المتوسط”، والتي استبعدت تركيا، رغم كونها الدولة الأكثر قربًا جغرافيًا.

نتيجة لهذا التصعيد، أصبح البحر المتوسط ساحة حرب، حيث تواجدت فيه السفن الحربية والطائرات الأجنبية تحت غطاء التدريبات العسكرية. في هذا السياق، شاركت مصر في عدد قياسي من التدريبات البحرية، بالتعاون مع دول مثل فرنسا وإسبانيا والمملكة المتحدة. كما شهد العام نفسه تحركات بحرية مصرية نحو البحر الأسود، الأمر الذي أدى إلى تحديث كبير في الأسطول البحري المصري، مما جعله في المرتبة السابعة عالميًا حسب تصنيف جلوبال فاير باور.

تدخلت دول الخليج، كالسعودية والإمارات وقطر، رغم بعدهم الجغرافي، لتشكيل رد فعل تجاه هذا الصراع. قامت السعودية والإمارات بدعم اليونان لتعزيز أمن الدول العربية من التهديد التركي، بينما دعمت قطر تركيا تحديًا لهذه التوجهات. كانت تلك التدخلات لها تأثير كبير في النتائج العسكرية للصراع، مما أسهم في تعزيز قدرات دول الخليج العسكرية وتشكيل تحالفات جديدة بين الدول العربية والأوروبية.

مع بداية عام 2021، شهدت السعودية والإمارات ومصر تقاربًا مع قطر عبر “بيان العلا”، مما فتح آفاقًا جديدة للتعاون بين تركيا ومصر. إذا تم تفعيل تعاون مستدام بين الجانبين، قد يحدث تغيير جذري في توازن القوى في البحر المتوسط.

الصراع المائي السياسي حول نهر النيل:

في سياق متصل، تشارك مصر بنشاط في مواجهة متنامية مع إثيوبيا بشأن إنشاء سد النهضة، الذي أقيم بشكل غير قانوني منذ عام 2010. يتضح أن تركيا ودول الخليج، خاصة المملكة العربية السعودية، لها أيضًا دور في هذه الديناميكية، ما يهدد الأمن في شرق إفريقيا ويمس بمصالح اقتصادية لدول الخليج بسبب الموقع الجغرافي قرب البحر الأحمر، والذي يلعب دورًا حاسمًا في حركة التجارة العالمية.

منذ السبعينيات، كانت إثيوبيا تطمح لبناء سد ضخم على النيل الأزرق، لكن كانت تخشى رد فعل عسكري من مصر. في أبريل 2011، استغلت إثيوبيا الأوضاع السياسية في مصر عقب ثورة الربيع العربي وأعلنت عن بدء بناء سد النهضة. الآن، تُروج إثيوبيا لفكرة أن السد سيتيح لها توليد الطاقة للكثير من سكانها الذين يفتقرون لها. بالإضافة إلى ذلك، تدّعي الحكومة الإثيوبية أن مياه النيل هي ملك لها، بحجة أن “الله أراد أن ينبع النيل من أراضيها”. ويقترحون الاحتفاظ بمياه النيل خلف السد لبيعها للدول الأخرى مثلما تفعل دول الخليج مع مواردها النفطية.

لكن الدافع وراء إصرار إثيوبيا يكمن في اعتبارات سياسية داخلية، حيث تسعى الحكومات الأثيوبية إلى تعزيز صورتها أمام الشعب من خلال موقفها المتشدد تجاه مصر، مما يعزز فرصها الانتخابية. الصراعات المائية المتواصلة تعود بالنفع على هؤلاء السياسيين، الذين لا يبذلون جهدًا شمال للمفاوضات. تكشف السلسلة الطويلة من المحادثات الفاشلة التي استمرت لأكثر من عشر سنوات بين مصر والسودان وإثيوبيا عن هذا الواقع، حيث كان آخرها في العاصمة الكونغولية كينشاسا في أبريل. يُشير البعض إلى أن إثيوبيا استخدمت تلك المفاوضات كوسيلة لكسب الوقت حتى تكتمل أعمال بناء السد.

منذ مطلع 2021، بدأت مصر في اتخاذ خطوات جدية للتعامل مع احتمالات نشوب حرب مع إثيوبيا إذا استمرت الأخيرة في تجاهل مخاوف مصر المتعلقة بالأمن المائي. في مارس، أُطلق تحذير واضح من الرئيس المصري، يشير إلى أن “كل الخيارات مفتوحة” إذا فشلت المفاوضات. في نفس الشهر، وُقعت اتفاقية تعاون عسكري بين مصر والسودان، مما يتيح لهما توحيد قواهما في مواجهة التهديدات الإقليمية، تلاها تدريبات عسكرية مشتركة قرب سد إثيوبيا.

وفي أواخر مايو، تم إجراء تدريبات أخرى في جنوب السودان، حيث استخدمت مصر وسائل عسكرية متقدمة. عُرفت هذه التدريبات باسم “حماة النيل”، مما أرسل رسالة واضحة لإثيوبيا وسط خطط للإفراج عن 30 مليار متر مكعب من المياه، والتي أجّلت لأسباب تتعلق بكفاءة البناء. تواصلت مصر في تعزيز التعاون العسكري مع أوغندا وكينيا وبوروندي كاستعدادات إضافية لأي تصعيد محتمل.

في حال حدوث نزاع مسلح بين مصر وإثيوبيا، فإن التأثير سيشمل الأمن الإقليمي في إفريقيا وأيضًا المصالح الاقتصادية في أوروبا. لكن يبدو أن المجتمع الدولي غير مهتم بحل النزاع بشكل فعّال، حيث انسحبت الإدارة الأمريكية من الوساطة، مما يُظهر تحديات حقيقية في إيجاد تسوية سلمية قبل تفاقم الأوضاع.

في ظل الصراعات المعقدة حول المياه، تبرز قضية سد النهضة كأحد أبرز التحديات التي تواجه مصر. في اتصال هاتفي مع الرئيس المصري في أوائل يونيو، أعرب رئيس المجلس الأوروبي عن دعمه لمصر في سعيها لحماية أمنها المائي، ولكنه أكد أن حل النزاع مع إثيوبيا يتطلب تدخل الاتحاد الأفريقي. من جهة أخرى، رفضت الصين، أكبر مستثمر في إثيوبيا، الطلب المصري للضغط على أديس أبابا، نظراً لوجود قضايا مائية مشابهة مع الدول المجاورة لنهر ميكونج. كما تجاهلت روسيا أيضًا دعوات مصر للتدخل عبر مجلس الأمن الدولي لجعلها وسيطًا.

في زيارة وزير الخارجية الروسي للقاهرة في مارس، تمت الإشارة إلى أهمية قضية سد النهضة لمصر، لكن أكد أن الحل يجب أن يأتي من خلال الاتحاد الأفريقي، الذي لم يتمكن طوال سنوات من تحريك الأمور نحو وجهة إيجابية.

في مارس، إلتقت جميع الدول العربية تقريبًا، باستثناء الإمارات وقطر، على دعم موقف مصر والسودان في مواجهتهما لإثيوبيا، مما أبرز أن الأمن القومي لمصر هو جزء أساسي من الأمن العربي. بدورها، عرضت الإمارات التعاون كوسيط دولي، ولكن لم تتحقق تلك الخطوة. في مايو، شرعت قطر كالرئيس الحالي لجامعة الدول العربية في اتخاذ إجراءات حقيقية للمساعدة في التعامل مع النزاع.

وفي سياق متصل، ألمحت تركيا إلى إمكانية تدخلها كوسيط، شريطة موافقة مصر. في مقابلة تلفزيونية، أشار مبعوث أردوغان الخاص إلى العراق إلى استعداد تركيا للوساطة، مع التحذير من تدخل الدول الغربية الذي قد يزيد الأمور تعقيدًا. وتمتلك تركيا تأثيرًا اقتصاديًا كبيرًا على إثيوبيا، حيث تعد ثالث أكبر مستثمر فيها، بعد الصين والسعودية. ومع ذلك، لم ترد مصر على عرض تركيا، تجنبًا للإضرار بعملية المصالحة التي تسعى لتحقيقها مع إثيوبيا.

ختامًا:

تتزايد أهمية النزاعات المتعلقة بالمياه في تشكيل الأجندة السياسية والعسكرية للدول في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. هذه القضايا لا تقتصر على الدول المتأثرة مباشرة، بل تشمل أيضًا تلك التي تعتمد على استقرارها الاقتصادي والسياسي على نتائج النزاعات. كما نشاهد، تلعب دول الخليج العربي أدوارًا بارزة في عدة صراعات، مثل النزاع بين اليونان وتركيا والصراع حول نهر النيل، مما يساهم في إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية وزيادة النشاط العسكري عبر الحدود. هذه الديناميات الجديدة لم تشهدها المنطقة منذ السبعينيات، مما ينذر بخطورة الوضع.

داليا زيادة

داليا زيادة هي محللة سياسية وكاتبة مصرية حائزة على جوائز. قد ألفت عدة كتب تتناول العلاقات المدنية العسكرية في المنطقة، وآخرها “مصر: الجيش، الإسلاميين، والديمقراطية الليبرالية” باللغة الإنجليزية، وتدير حالياً مركز دراسات الديمقراطية الحرة. درست العلاقات الدولية والأمن الدولي في كلية فليتشر للدبلوماسية والقانون بجامعة تافتس الأمريكية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى