
مسار عبد المحسن راضي
في عالمنا الرقمي المعاصر، تتحول أفكارنا ومواقفنا إلى “بيانات ضخمة”، مما يتيح لنا إنتاج ثروات هائلة. تماماً كما يفعل القزم الأسطوري رامبلستيلتسكين، الذي يستخرج الذهب من حليب بياناتنا، يمتلك القزم الجديد منصة تُعرف بإدارة البيانات. هذه المنصة تعمل على تحويل معلوماتنا إلى منتجات مربحة تتخطى قيمتها المليارات.
السطو الرقمي الحلال
أنشطتنا على الإنترنت تعتبر بمثابة “فياجرا” تسويقية تضمن استمرار الشركات في جذبنا. دون وعي منا، نستخدم الإنترنت لتبادل أفكار عبقرية وملاحظات ذكية قد تخجلنا لو عُبرت في الحياة الواقعية. إن منتجات أفكارنا النادرة التي نتخلّى عنها، تُجمع لتكوين تنبؤات اقتصادية عالية القيمة، تروج لبيع “اليقين” في الأسواق السلوكية.
ما يحدث اليوم هو ظهور “الرأسمالية الجديدة”، التي تركز على المراقبة، وتشير إلى عصر الحروب الرقمية الناعمة. في هذا السياق، تمثل البرمجيات الخبيثة والهاكرز رموزاً للدخول إلى عصر جديد؛ مجرد قطع أثرية من الماضي لا تنفع في العالم المعاصر.
بحسب زوبوف، فإن الحلم الرقمي قد ولى، لكنني أرى عكس ذلك. جوهر الرقمنة هو أنت، ومن يدير حياة الإنترنت هو الذي يمتلك هذا الحلم، في حين أن الخطر يكمن في بقاء المرء محاصراً في جسد البطة الذهبية.
إن الشركات الكبرى مثل ميكروسوفت، أمازون، وآبل، تواصل إغراقنا بالتطبيقات الجديدة، مما يحول الإنترنت إلى شبه مطعم سريعة، حيث “مجانية” الوصول تعني فقدان بياناتنا. تعتبر بياناتنا جزءاً من “ثورة الثروة”، ولكن توزيع الفوائد لا يكون عادلاً للجميع.
«أيرون مان»: دون كيشوت الطواحين الرقمية
يمكن اعتبار فيلم “أيرون مان” تجسيداً لدون كيشوت الرقمي. القصة تمنحنا أملًا في محاربة الظلمات وجلب النور التكنولوجي، لكن العقبات هي أفكارنا ومعتقداتنا التي نتركها للرقمنة. لقد حان الوقت لتبديد هذه الخرافات.
التحليلات المبنية على أفكار توفلر تُظهر لنا كيف أن “أيرون مان” هو في الحقيقة مجرد قاعدة بيانات معقدة، تسهم في مهام عسكرية وتجارية تهدف إلى الاستنزاف. إن جذر التعقيد الرقمي يكمن في صدقنا، مما يكشف للعالم أبعادنا الحقيقية.
تظهر تعقيدات عالمنا الرقمي عندما نعرض بياناتنا على الملأ. الآثار السلبية تشمل انتشار المعلومات المضللة والتغريدات الزائفة، مما يعكس صورة مزيفة عن شخصيات لم تُخلق بعد. هذه الحالة تخلق واقعاً مُقلقاً، يتطلب منا الوعي والتوجيه في عصر التواصل الرقمي.
يعيش العالم الرقمي مليئًا بالتحديات المعقدة، حيث تتراكم البيانات بشكل هائل، مما يمكن أن يؤثر سلبًا على حقوق الأفراد. وفقًا لموقع «وايرد»، نحن نواجه تحيزات إنسانية عميقة يمكن أن تنعكس على سلامتنا الرقمية. هذه التحديات تتطلب منا الوعي بحماية معلوماتنا الخاصة.
الصيادون والطرائد الرقمية
في العصر الرقمي، أصبح القانون الدولي أقل تأثيرًا على تحقيق العدالة. على سبيل المثال، المادة 17 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، التي تم الموافقة عليها في عام 1966، تؤكد على أن التدخل في خصوصيات الأفراد يجب أن يكون محميًا. ومع ذلك، لا تزال هناك فجوات قانونية واضحة في العالم الرقمي العربي.
ظهرت تقارير تتحدث عن كيفية تصنيف بعض الصحف العربية، مثل صحيفة محلية عراقية، كأهداف للرقابة. حيث تم نشر مقالات تتناول قضايا حساسة لم تكن لتصل إلى الإنترنت بشكل طبيعي، مما دفع الصحيفة إلى التساؤل عما إذا كانت تعتبر “إرهابية”.
البيانات الضخمة اليوم تساهم في تصنيف الأفراد وتحديد قدرتهم على الوصول إلى المعلومات. فعندما تبحث عن مواضيع معينة عبر محركات البحث، تجد نفسك محاطًا بتصنيفات قد تكون صعبة للخروج منها. حتى لو حصلت على حكم قضائي يتيح تعديل بياناتك، تحتفظ شركات المعلومات بما جمعت عنك من بيانات.
دروع تقنية ونقاط ضعف سياسية
تسعى المواقع الإلكترونية العربية والكتاب إلى تحسين ظهورهم على الإنترنت عبر تحسين محركات البحث (SEO). تأتي هذه العملية مع تحديات عديدة، إذ أن جوجل، كأهم محرك بحث، تتطلب أن تكون المحتويات حصرية وغير مكررة. ومع أساليب جوجل المتغيرة دومًا، كيف يمكن للكتّاب العرب تحديد المقالات الضعيفة التي تعرضوا لها؟
يشير العديد من المراقبين إلى تحيز جوجل تجاه المقالات الطويلة، مما يجعل من الصعب على المحتوى القصير أن يبرز. تحتاج الروابط الخارجية إلى موثوقية لضمان نجاح المحتوى، فالمصداقية هي مفتاح النجاح في العالم الرقمي.
بينما تسقط هذه الدروع التقنية خلال الأحداث الإعلامية العالمية، أكد الوزير الروسي لافروف أن الأنانية الرقمية الغربية تعيق التعاون العالمي، داعيًا إلى إدماج دول مثل الصين وروسيا لتأمين بيئة رقمية راعية.
قوات «سوات» عنكبوتية تكافح تحديات الرقمنة
انضم جاريد كوهين، الذي يحمل خبرات في الأمن القومي، إلى جوجل عام 2010. سرعان ما أسس فريق “جيساك”، الذي يهدف إلى مكافحة الإرهاب عبر الانترنت. إن هذه المبادرات تزيد من تعقيد الوضع الرقمي وتطرح تساؤلات حول التوازن بين الأمان والحرية.
تتعامل هذه القوات الرقمية مع العديد من التحديات، مما يتطلب إستراتيجيات فريدة للتوجه نحو عالم رقمي آمن. إن التحولات التي نشهدها تجعل من الضروري فهم كيفية الارتقاء بحماية المعلومات والحقوق الرقمية للأفراد في العالم العربي.
يستمر الحديث حول قضايا التضخم المتزايد، وسوء استخدام التكنولوجيا، وكذلك انتشار مقاطع الفيديو التي تدعم نظريات المؤامرة على منصات مثل اليوتيوب. رغم ذلك، تمكنت قوات «سوات» جوجل من إنهاء حياة الراوي الشهير لنظريات المؤامرة، أليكس جونز. على الرغم من السذاجة في بعض التحليل، توفر هذه النظريات سياقًا لفهم الصراعات الدولية الحالية. ورغم محاولات القضاء عليها، فإن هذه النظريات لن تختفي تمامًا، لكنها ستجد صعوبة في تحقيق زخم كبير في ظل الضغوط الرقمية.
تقنية «إعادة التوجيه»، التي طورتها «سوات» جوجل، تُعتبر سلاحًا رقميًا موجهًا. وفقًا لشروحات Jigsaw، تستهدف هذه المبادرة الشرائح الأكثر ضعفًا تجاه خطاب تنظيم «داعش». مما يطرح التساؤل: من هم الأفراد في العالم العربي الذين لم يتأثروا بخطاب هذه الجماعة الإرهابية؟ والمثير للقلق أن هذه المبادرة مفتوحة لإسهامات الأفراد والمنظمات، مما قد يحول بعض المعتقدات إلى أدوات للرقابة الرقمية.
تتزايد المخاطر الرقمية التي تهدد الفكر العربي بشكل مقلق، حيث لا تتجاوز نسبة المحتوى الرقمي العربي الـ1%. هذا الوضع المؤسف يعكس افتقار الفكر العربي للتمثيل الفعال في القضايا والأزمات الهامة. فالكثير من النشاط الرقمي في العالم العربي يميل نحو المنصات الاجتماعية، حيث يعتمد كثير من الأفراد العاديين على التعبير عن مظلومياتهم. يتسم الفكر النخبوي بتأمل أعمق، حيث يسعى إلى إيجاد حلول قبل الانفجار.
تعتبر الفئة الشابة جزءًا محوريًا من المجتمع العربي، حيث تشكل نسبة كبيرة ممن هم تحت سن الثلاثين. يمتلك الكثير منهم مهارات رقمية متعددة، مما يمنحهم القدرة على التواصل مع التحولات الاجتماعية والسياسية. يتطلعون إلى تغيير واقعهم ويترقبون فرصًا جديدة لبناء مستقبل أفضل.
هذا الوضع يعكس تحديًا كبيرًا أمام الأنظمة السياسية العربية، التي تخشى من التصاعد المتزايد لرقمنة الفكر والمحتوى الإعلامي. تستمر التحذيرات من قبل المفكرين البارزين حول قوة الإعلام في تشكيل السياسة، مما يبرز أهمية فهم كيفية تأثير هذه التحولات الرقمية على الاستقرار السياسي في المنطقة.
يجب على الأنظمة أن تدرك أن استقرارها السياسي يعتمد على القدرة على دمج رقمنة الأفكار العربية في إطار سياساتها. أصبحت الموارد الرقمية بمثابة اختبار حقيقي للعالم العربي في نظر المجتمع الدولي.
الهوامش:
(1) آلفن وهايدي توفلر، الحرب وضد الحرب، ص243-244.
(2) المصدر السابق، ص190.
(3) المصدر السابق، ص190.
(4) المصدر السابق، ص217.
(5) الكونت دي مارنشيز وديفيد أ.اندلمان، الحرب العالمية الرابعة/دبلوماسية وتجسس في عصر الإرهاب، ص371.








