
أ.د. غادة عامر
وكيل كلية الهندسة للدراسات العليا والبحوث – جامعة بنها
زميل ومحاضر – كلية الدفاع الوطني – أكاديمية ناصر العسكرية العليا
في ديسمبر 2019م، تم تأسيس قوة الفضاء الأمريكية كفرع عسكري مستقل يختص بتعزيز القدرات العسكرية الأمريكية في مجال الفضاء. لقد قام العديد من محللي الدفاع بدراسة هذا التطور لفهم المهام التي يمكن أن تحتلها وزارة الدفاع الأمريكية في الفضاء. لكن أولاً، من المهم تعريف الفضاء. تعتبر وثيقة القوة الفضائية أن الفضاء هو مجال الطيران المداري، ويشمل جميع المركبات التي تغادر الغلاف الجوي ثم تعود إليه، مثل الصواريخ الباليستية. ورغم أن الغلاف الجوي للأرض ينتهي عند خط “كارمان” (المحدد ارتفاعه بـ100 كيلومتر فوق مستوى سطح البحر)، فإن القوات الفضائية الأمريكية مصممة على عدم التقيد بأي حدود مادية محددة للفضاء.
تعتبر عسكرة الفضاء بمثابة استغلال الفضاء لأهداف عسكرية، سواء عبر استخدام الصواريخ أو الأقمار الصناعية لأغراض المراقبة أو الاتصال. بدأت هذه العسكرة بشكلاً فعلياً في نهاية الحرب العالمية الثانية، حينما استخدمت ألمانيا صواريخ V2 ضد إنجلترا. وبعد انتهاء الحرب، استفادت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي من التكنولوجيا والعلماء الألمان لتطوير برامج الفضاء الخاصة بهم، مما أدي إلى انطلاق “سباق الفضاء” الذي أضاف بُعدًا جديدًا لهوية القوة الوطنية. وقد شكل هذا التغيير أهمية جديدة في العمليات العسكرية، حيث أدت تكنولوجيا الفضاء إلى تعقيد غير مسبوق.
كانت القيمة العسكرية للصواريخ الباليستية واضحة، ولكن الأثر غير المباشر للأقمار الصناعية على الاستطلاع والاتصالات العسكرية بدأ يتجلى ببطء. في عام 1960م، تم إطلاق أول أقمار التجسس الصناعية، وعلى الرغم من محدودية جودتها مقارنةً بطائرات الاستطلاع، إلا أنها كانت توفر ميزة عدم اعتراضها. في عام 1966م، أطلق الجيش الأمريكي أول قمر صناعي مخصص للاتصالات العسكرية، مما ساهم في حل مشاكل نقل الإشارات العسكرية بشكل ملحوظ. خلال فترة الحرب الباردة، أصبح الفضاء محورًا رئيسيًا لتعزيز الردع النووي، حيث استخدمت الأقمار الصناعية للكشف عن أي نشاطات تتعلق بالضربة الأولى من أي طرف.
خلال السبعينيات والثمانينيات، شهد عدد الأقمار الصناعية تطورًا كبيرًا. تمكن الجيش الأمريكي من تطوير قدرات تشغيلية متقدمة في المجال الفضائي، حيث وفرت المعلومات الاستخباراتية والاتصالات وأنظمة الملاحة للجنود. كان هذا واضحًا في حرب الخليج، حيث استغل الجيش الأمريكي الفضاء لتحقيق تأثير أكبر في النزاعات التقليدية، مما جعل ساحة المعركة أكثر وضوحًا وتماسكًا.
تتميز القوات الأمريكية بتفوقها الملحوظ على أي قوات تقليدية، حيث تعتمد معظم العمليات العسكرية الحديثة (بمختلف الخدمات وعبر كافة المستويات) بشكل كبير على الفضاء. يتمثل ذلك في توظيف الأقمار الصناعية لتحديد الأهداف، تتبع الحركة، نقل البيانات إلى الرماة، ومراقبة نتائج الهجمات. وهذا يمنح القادة صورة واضحة لساحة المعركة، مما يسهل عليهم التواصل مع القوات وتقديم معلومات دقيقة حول تحركات قوات العدو.
بالإضافة إلى ذلك، ازداد الاستخدام المدني للفضاء، مما أدى إلى تغييرات في الطريقة التي يتم بها استخدام الفضاء عسكريًا. تهيمن أقمار الاتصالات الآن على صناعة التواصل الدولي، موفرة الاتصالات للشركات والأفراد في جميع أنحاء العالم. لذا، قامت الحكومات والجامعات والشركات ببناء بنية تحتية تدعم هذا التواصل في عملياتها اليومية. ما أشار إليه “ريتشارد بالدوين” – أستاذ الاقتصاد الدولي – يعد دليلاً على “التسريع الكبير الثاني” للعولمة، حيث يلعب الفضاء دورًا أساسيًا في تنقل المعرفة بين الدول، والأفراد، والشركات. مما يعني أيضًا أن أي عرقلة للوصول إلى فضاء الاتصالات قد تؤدي إلى اضطرابات اقتصادية واجتماعية واسعة النطاق. على سبيل المثال، إذا تعطل نظام تحديد المواقع العالمي، سيواجه الكثير من الأشخاص صعوبة في التنقل في محيطهم.
تتجه العديد من البلدان إلى تبني نهج مشابه للولايات المتحدة من خلال إنشاء منظمات فضائية عسكرية خاصة، مثل قيادة الفضاء في المملكة المتحدة والقوة الجوية والفضائية الفرنسية. علاوة على ذلك، يستثمر آخرون بشكل مبكر في مشاريع فضائية مدنية وتجارية، حرصًا على عدم تفويت فرص الدخول إلى هذا المجال المهم.
ومع ذلك، فإن الزيادة في استخدام الفضاء لأغراض عسكرية ومدنية قد أوجدت نقاط ضعف جديدة أيضًا. يعتمد الجيش الأمريكي بشكل كبير على الفضاء في عملياته الأساسية، ويعتمد الاقتصاد المدني الأمريكي على الفضاء بشكل متزايد، مما يسهل على الأعداء الوصول إلى التقنيات اللازمة لاستهداف الأقمار الصناعية الأمريكية. يمكن أن تهدد الأعداء الاقتصادين العسكري والمدني للولايات المتحدة من خلال استهداف البنية التحتية الفضائية. كما أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على تأكيد قدرة الأقمار الصناعية المستخدمة في المشروع النووي على ردع الهجمات على الأقمار الصناعية العسكرية. على سبيل المثال، في عام 2007، قامت الصين بتدمير أحد أقمارها الصناعية في مدار أرضي منخفض، لاختبار قدراتها، مُظهرةً قدرتها على تهديد البنية التحتية للاتصالات الأمريكية. كما أدى تدمير القمر الصناعي إلى تكوين حقل كبير من الحطام، الذي لا يزال يشكل تهديدًا على الاستخدام العسكري والمدني للمدار الأرضي المنخفض. أظهرت العديد من الدراسات أن الحروب في الفضاء يمكن أن تؤدي إلى خسائر طويلة الأمد لبعض من أكثر المواقع قيمة في المدار الأرضي، مما يؤثر سلبًا على العمليات العسكرية والبنية التحتية الفضائية المدنية.
تابع..








